مقال “العقد الاجتماعي في الشرق” ضمن مقدمة كتاب “تاريخ العقد الاجتماعي في الغرب

يعلم قراء هذه المدونة الكرام أن صاحبها ترجم في العام الماضي كتابا بعنوان “تاريخ العقد الاجتماعي في الغرب” لمؤلفه البروفيسور مايكل ليشنوف. لكن غير المعلوم في هذا الصدد أن المترجم وضع مقدمة تحتوي مقالا بحثيا حول مسألة العقد الاجتماعي في الشرق الآسيوي والعالم الإسلامي من الناحية التاريخية، عبر نماذج العقد الاجتماعي في الصين والهند القديمتين، وكذلك صيغة العقد الاجتماعي بالدولة التي جاء بها الإسلام؛ لكن ظروف طباعة الكتاب وضيق مساحته لم تمكننا من نشر هذا المقال في متن كلمة المترجم الواردة في صدر الكتاب. وأنشر هنا هذا المقال بعد الاستئذان من الناشر. وارتأيت نشر المقدمة كاملة حتى لا يُبتر سياقها، مع وضع المقال المحذوف بلون مميز تسهيلا للقارئ.

مقدمة المترجم

كلّفتني إدارة دار العولمة الموقّرة بالبحث عن موضوع حيوي ما زال يحوز على اهتمام عموم القرّاء، وما ينفك بريقه يتوهج، على الرغم من أقدميته واعتقاد كثيرين بزوال أهميته. لقد شغلت مسألة “العقد الاجتماعي” بال كثير من المفكّرين والمثقفين والفلاسفة، بل وحتى المصلحين والدعاة، وصولاً إلى الأنبياء والرسل. ويبدو أن هذه المسألة تطفو على السطح، ثم تخبو، ثم تعود إلى الواجهة، وهكذا دواليك، تبعاً لأحوال الإنسان ومجتمعه والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية المصاحبة لهم جميعاً. لكنها ما تلبث أن تحتلّ مكانتها لدى كل شعب يرنو نحو تحقيق عدة ركائز تُبنى على أسسها أي دولة على القوام السليم، ألا وهي ركائز: العدل وحكم القانون، والاستقرار السياسي، وتحديد الهوية والقيم السائدة، والقدرة على الإنتاج والمنفعة الاقتصادية المتوازنة، وترسيخ الأمن العام. والحق أن من الصعوبة بمكان على أي دولة حديثةً كانت أم قديمة الجمع ما بين هذه الركائز المثلى كلها لقيام الدول، بيد أن وظيفة “نظرية العقد الاجتماعي” تكرّس نفسها في المقام الأول في توضيح ما يُفترض أن يكون، ولا تركّز على صعوبات التطبيق على أرض الواقع إلا بما يتصل بالمشاكل الجوهرية في كل نظرية من نظريات العقد الاجتماعي. إذن، فهي نظرية قبل كل شيء، وكل نظرية تبحث لها عن برهان.

وكان توجه دار العولمة ينحو إلى اختيار محدد لموضوع من مواضيع “العقد الاجتماعي”، ألا وهو جانب التطوّر التاريخي للنظرية، وتتبع أبرز منظريها والمتكلمين فيها من مفكرين وفلاسفة، ورحلاتهم الفكرية التي مكّنتهم من وضع خلاصاتهم واستنتاجاتهم في هذا الشأن. فطفقتُ أبحث وأتحرّى وأتفحص مؤلفات كثيرة أملاً بالعثور على مبتغانا، إلى أن وجدت هذا العنوان المقتضب Social Contract، فرأينا والدار أنه يطرق صلب الفكرة التي أردنا خوض غمار ترجمتها ونقلها إلى القارئ العربي الكريم. وقد صدر هذا الكتاب ضمن سلسلة معرفية ماتعة لدار مكميلان للنشر اسمها Issues In Political Theory “مسائل أو مواضيع في النظرية السياسية”، أشرف على إدارة تحريرها كل من الأستاذين د. بيتر جونز Peter Jones ود. ألبيرت ويل Albert P. Weale وذلك بدءاً من ثمانينيات القرن الماضي، ونشرت السلسلة عدة كتب تعالج الموضوعات الأساسية في النظرية السياسية، مثل “الطبيعة الإنسانية” و”الحرية” و”العدالة” و”الشرعية” و”المساواة” و”الحكم الذاتي”، بالإضافة إلى كتابنا هذا “العقد الاجتماعي”  الذي تولى مسؤولية كتابته الأستاذ الأكاديمي البارز البروفيسور مايكل ليشنوف (أو ليسنوف)[1] Michael Lessnoff وهو خير من يكتب حول هذه المادة نظراً لتخصصه الأكاديمي فيها، إذ ألّف كتاباً آخر بعنوان لا يبتعد كثيراً عن عنوان كتابنا هذا وهو “نظرية العقد الاجتماعي”، بالإضافة إلى عدد من الكتب الأخرى تدور حول مجال الفلسفة السياسية، الكلاسيكية منها والمعاصرة. والبروفيسور ليشنوف أستاذ أسكتلندي وكان يدرّس في جامعة غلاسكو، وهو من بين المثقفين والنقّاد السياسيين الصارمين، ويبدو أنه بلغ من العمر عتياً وتقاعد حالياً.

يأخذنا البروفيسور مايكل ليشنوف بجولة شائقة لبدايات فكرة العقد الاجتماعي وكيفية تبلورها إلى أن غدت نظرية تتكامل وتتوسع شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن، فأصبحت كالشجرة الشاهقة ومترامية الفروع والأطراف؛ إذ وصلت هذه النظرية إلى مراحل معقدة، ومتشابكة من التنظير، ووضع الفرضيات والبراهين، التي قد يَثبُت بعضها وبعضها الآخر يبطل ولا يصح. ولعل السبب في ذلك يكمن في تعقّد الحياة البشرية وتشابك ظروفها في القرون الأخيرة، ومن ثم لا بد من توصيف دقيق لأبرز ملامح هذه الحال ومفاصلها. يقدّم ليشنوف مفارقة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن مصطلح “العقد الاجتماعي” غير دقيق، فهذا العقد سياسي بحت في المقام الأول، ويناقش قضيةً تصبّ في صميم الفكر السياسي (ونجزم أنه أحد الموضوعات الرئيسة في العلوم السياسية والاجتماعية)، وليس مسألة اجتماعية، إلا بالقدر الذي يتلقاه المجتمع نتيجةً لهذا الاتفاق السياسي بين أطرافه المتعاقدة. ومن النقاط البارزة التي يجدر أن يأخذها القارئ بعين الاعتبار كذلك أن العقد الاجتماعي (ذاته) مسألة نظرية، لا فعلية. إذ لا يوجد—غالباً—عقد مكتوب ومبرم (فعلياً) بين أطرافه يُسمى “عقد اجتماعي”، بل هو تعبير (افتراضي) عن اتفاق يحدث بين مجموعة أو مجاميع من الناس في أرض أو إقليم معين، يحددون من خلاله من هو الحاكم، وربما ما هو نظام حكمهم الذي يتفقون عليه، ومن هم المحكومون أو الشعب، وما هي بنود هذا الاتفاق (العقد) الافتراضية. وهذا أبسط تعريف مخلّ وقاصر، لكنه ربما أفضل ما يتخيّله الإنسان عن فكرة العقد الاجتماعي. ومن البديهي أن نتصوّر استحالة تطبيقه الحرفي على أرض الواقع تطبيقاً دقيقاً، إذ لا يوجد في سجلات التاريخ ما ينص على أن شعباً بأكمله (قلّ أو كثر) قد تجمّع واتفق على ذلك، فهذا مستحيل بطبيعة الحال، وما يمكن للمرء تصوّره أن هذا الشعب (الافتراضي) ينتخب ممثلين أو نواباً عنه لأداء هذه المهمة، وإذا افترضنا أن فرداً منهم يعترض على شيء من هذا الاتفاق، فلن يكون أمامه خيار سوى الرضوخ للإرادة العامة، وهذا ما اتفق عليه المنظرون الثلاثة الكبار: هوبز ولوك وروسو، كما سنشهد في الكتاب. وما أريد توضيحه هنا أن هذا الوضع (الافتراضي) هو ما جعل العقد الاجتماعي يصاغ بطريقة النظرية. لكنه في النهاية عقد ضروري لقيام الدول، ودونه “فلا دولة” كما يصرح أحد المنظّرين.

هذا الكتاب الذي قدّمه البروفيسور مايكل ليشنوف في عام 1986 جزل الفائدة بلا شك، وفيه إسهاب منير ومحدد في صلب الموضوع، لكن يعيبه جانب بارز لا يخفى عن كل عين واعية، إذ يحصر نفسه في دراسة تاريخ العقد الاجتماعي في القارة الأوروبية فقط، وهذا الحصر غير مذكور في العنوان المقتضب والعام (جداً) للكتاب: “العقد الاجتماعي”، كما أن المؤلف لم يذكر في استهلاله أسباباً لعدم تطرقه إلى الأمم الأخرى، التي كانت لها صيغ أقدم للعقد الاجتماعي في ثقافاتها السياسية، لا سيما الحضارات الشرقية القديمة مثل الصين والهند، ثم العالم الإسلامي. وكان الأجدر بهيئة تحرير السلسلة ضبط العنوان وحصره بالدراسة التي تناولها المؤلف، ألا وهي القارة الأوروبية والعالم الغربي. والحقيقة أن المؤلف ليس بعيداً عن الاطلاع على الثقافات الشرقية، إذ شاهدتُ لها ندوة قديمة بعنوان Islam, Modernity and Science “الإسلام والحداثة والعلم” أظهر فيها إدراكه لتفاصيل دقيقة في الثقافة الإسلامية. ومن ثم، كان ليشنوف قادراً على تقديم ملامح مكمّلة في هذا الباب، حتى وإن أوجز فيها. وأعتقد أن ليشنوف لا يتحمل مسؤولية هذه المثلبة، بل أرى أنها تقع على عاتق هيئة التحرير عموماً.

مهما يكن من أمر، لعل هذا القصور النسبي يترك لي باباً موارباً للإشارة إلى هذه الجوانب المهمة والمكملة لفكرة الكتاب عند تلك الحضارات الشرقية التي تعاملت مع فكرة العقد الاجتماعي تعاملاً يمتاز بما تتمتع به من خصوصية وتفرّد ثقافي، مع ضيق المساحة المتاحة التي قد لا تسمح لي بالإسهاب كثيراً في هذه الجوانب. لكن يجوز لي انتقاء ثلاثة من الحضارات الشرقية التي استخدمت فكرة العقد الاجتماعي في ثقافتها السياسية: الحضارة الصينية، والحضارة الهندية، والحضارة الإسلامية. مع العلم أن الحضارات الأخرى في الشرق مثل حضارة مصر القديمة (الفرعونية) وحضارة بلاد الرافدين كانت لها قطعاً أنماط خاصة من العقد الاجتماعي تستحق الدراسة والتأمل، لكني سأكتفي بالحضارات المذكورة وثقافتها السياسية.

أولا: العقد الاجتماعي في الصين القديمة:

كانت المناطق الشاسعة في أقصى شرق وسط آسيا تتصارعها قديماً عدد من الممالك العشائرية والعائلية، ويبدو أن إحداها “عائلة تشو (أو جوه)” بقيادة الملك وين “نجحت في هزيمة المملكة الأخرى “شيانغ” وملكها الظالم والمستبد”[2] في عام 1045 قبل الميلاد. ظهرت هنا الملامح الأولى لما يسمى “الصين المركزية”، واعتمدت في ثرائها الاقتصادي والاجتماعي في تلك الحقبة على النهر الأصفر وما حوله من أنهار، فأدى ذلك إلى تكوين مجتمعات زراعية حضرية، وما لبثت أن اقتضت الحاجة إلى صياغة نوع من التنظيم السياسي لهذا الواقع. بدا أن هذه الثنائية بين الإنسان والطبيعة (وما تحتويه من صعوبات وأهوال) ولّدت الحاجة إلى الإيمان بقوى ما فوق طبيعية يركن إليها الإنسان الصيني حتى تعطيه دافعاً وحافزاً لمواجهة تلك الأهوال (النهر الأصفر له فيضانات موسمية تؤدي إلى القضاء على كثير من المحاصيل الزراعية، ومن ثم تدمير الحياة الاقتصادية باستمرار). والحقيقة أن “انعكاس وجود عقد اجتماعي في الحياة الصينية أصبح مع مضي الوقت يعتمد على المفهوم الأخلاقي الدقيق والسائد لدى الناس، ومنه اعتقادهم تفضيل الآلهة لانسجام الأشياء في الطبيعة وتناسقها، ويتجسد هذا بالفكرة الفلسفية (يينغ-يانغ) “طاقة السالب والموجب-الخير والشر-الصلاح والطلاح” وكيفية تناسقهما بطريقة دائرية اندماجية لكي تسير الحياة بيسر وسهولة. والأمر ذاته ينطبق على فكرة الدولة، فهناك السيد وابن العامة، ومن هو كبير ومن هو صغير، إلى أن يحدث التكامل ذو الشكل الهرمي”.[3] كما أن ” في الصين، حدث بناءً على ذلك اتفاق على نوع من نظام الحكم الأبوي والهرمي، لكنه يختلف عن نظام الحكم الأبوي في الغرب (الذي سيخصص له المؤلف قسماً كاملاً) في أن مبعثه احترام العائلة ووشائج الدم، لأن هذا ما تنص عليه العقيدة الكونفوشية”.[4] وقد علّق على ذلك المفكر الألماني هيغل، الذي سيتطرّق إليه المؤلف في ثنايا الكتاب، قائلا: “الطبيعة الصينية التقليدية لا تركز على الوعي الفردي، بل تعتمد على الأخلاق وبر الابناء للخصائص العائلية.”[5]

ويتضح لنا أن المجتمع الصيني تمثّل له قواعد السلوك العامة والأخلاقيات Ethics المبنية على التناسق الهرمي حجر الزاوية، وهو ما يطلق عليه في اللغة الصينية 德. وكانت فكرة الوحدة بين الإنسان و”السماء”، فيما قبل حقبة تشين، لا تحدد ماهية هذه “السماء” بالضبط، لكن مع حلول حقبة شانغ جرى تحديد السماء أنها تجسد الإله (أو الآلهة)، وتجسيد الإله يكمن في الملك، مع الاعتقاد في الوقت نفسه بتقديس الأسلاف بحكم اتصالهم مع آلهة السماء. وهذا يشير إلى رغبة السلطة بتوحيد الديانات المتعددة، لكي تنشأ دولة واحدة”.[6]

“ثم ما لبثت أن تحولت “السماء” -حسب الاعتقاد الصيني- من حماية القبائل والعشائر وصون وشائج الدم، إلى حماية الدولة، اتساقا مع قاعدة الأخلاق، مع تكوين قيم أخلاقية مثالية تدعم هذا التفكير”.[7] ونلاحظ هنا أن “الالتزام (الذي يفترضه العقد الاجتماعي) مترتب على الملوك، إذ يشترط تمسكهم بالقواعد الأخلاقية المشار إليها، والملك الذي لا يمارس هذه القواعد ويحمي الشعب، فلن تفضله السماء، ومن ثم قد يخلع”.

و”هذه القيم الأخلاقية الإثنية عززها عامل “الوحدة الثلاثي” الذي انشأته الكونفوشية (وحدة السماء والانسان، ووحدة المعرفة والممارسة، ووحدة الطبع والوضع) تبلورتا معاً لتكوين قواعد أخلاقية اجتماعية، وولّدت مظهرا خارجيا عبر تكوين آلية تقييد فعّالة، ومظهراً داخلياً عبر الأخلاق الإثنية الصينية، وجرى تأطير ذلك كله على شكل قانون ملزم، وتطوّر ذلك تدريجياً ليصبح أبرز العوامل التي تربط العوائل والمجتمع، ووصولاً إلى الدولة في الصين”.[8]

ونجد أن تلك القواعد الأخلاقية التي يتسم بها المجتمع الصيني غالبةٌ ظاهرةٌ عليه، فتسبغ عليه “هوية مميزة” لتجعله مجتمعاً يحمل شخصية متفرّدة، حيث “تشكّل القواعد الاخلاقية والعَقْد المحّرك لتطور حضارته على مدار الألف سنة الماضية. وبذلك تتشارك القواعد السلوكية والأخلاقية مع العقود في وضع اتفاق اجتماعي وسياسي لصيغة الحكم في الصين”.[9]

“سعى المجتمع الصيني التقليدي إلى إيجاد صيغة مُثلى للعلاقات البشرية، لكن الفلاسفة أمثال كونفيوشس ومنسيوس وصن تزو أولوا اهتماما كبيرا بالأخلاقيات وأصول السلوك (الأتيكيت)، رغبةً بالحفاظ على العلاقات الانسانية وحكم الملك حسب النظام الأمثل. ويوجد هنا شكل من أشكال الديمقراطية البدائية حيال مسألتي الحق والالتزام اللذان يكملان بعضهما بعضا ويتشابكان معا: إحسان الوالدين وبر الابناء، الزوج الصالح والزوجة المطيعة، والملك الحكيم والوزير المخلص، والعكس صحيح”.

أما التأثير الذي يشكله القواعد الأخلاقية على تطور العقد في الصين القديمة فيتلخص بالآتي:

  1. تفرض القواعد الأخلاقية حدوداً للهوية، بحكم أن العقد يعتمد على هوية وطبيعة الاطراف فيه. فمثلا كان يُحظر على الصغار والفئات الأدنى اجتماعيا بيع الأراضي، منذ حقبة آل تانغ حتى حقبة آل تشينغ.
  2. تضطلع القواعد الأخلاقية بدور عظيم في التعاملات التعاقدية، فكل طرف مهما كان يخضع لطاعتها.
  3. ترسخ القواعد الأخلاقية نظاما فريدا من نوعه من التكامل في المجتمع الصيني التقليدي، ما يؤثر على الأعراف التعاقدية عميقا، وتتم السيطرة على المجتمع عبر ثلاثة مظاهر: أ) حكم القانون الذي يسنّه الملك، ب) حكم آداب السلوك العامة، ج) حكم الأخلاق.[10]

لكن ما السبب في استمرار النظام الاشتراكي حتى اليوم بعد ذكر ما سبق؟ يسرد المرجع الذي اعتمدناه هنا، ألا وهو كتاب The History of the Contractual Thoughts in Ancient China لمؤلفه د. ينشينغ ليو، عدداً من الظروف والملابسات، لكنه يشدد على “نجاح هذا النظام بإقناع الصينيين أنه جسّد فكرة “الشعب الواحد” وأنه الطريق الأمثل “للطاوية”، وهذا ما يقرّبه من مفهوم العدالة المجرّد أو المادي، والعدالة هي همزة الوصل والواسطة بين القواعد الأخلاقية ونموذج العقد الصيني”.[11]

وإجمالاً، لفكرة العقد الاجتماعي في الصين مقومات خاصة تنحو إلى الجانب الروحاني والأخلاقي، حسب الظروف المختلفة التي واجهها هذا الشعب على مر التاريخ. وعلى الرغم من عدم وجود ترسيخ مدوّن للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في الصين، ومن ظهور ملامح الاستبداد فترات ليست بالقصيرة، نرى أن كثيراً من الغايات التي يقصدها العقد (كالعدالة والاستقرار والثراء والرفاهية، إلخ) قد تحققت لأزمان وحقب تاريخية طويلة في الصين بالذات أكثر من بقاع أخرى، لا سيما أوروبا الغربية.

ثانياً: العقد الاجتماعي في الهند القديمة:

يُقال إن الهند في العصر الحديث هي “أكبر ديمقراطية في العالم”، وسواء اتفقنا على جدوى هذه الديمقراطية الكبيرة لأهل البلاد جميعاً أو لم نتفق، لا بد أن ثمة جذور لاتفاق جامع، أو شبه جامع، بين الناس على صيغة حكم مقبولة وعامة، وهذه مسألة شبه مستحيلة إذا كان القصد منها شبه القارة الهندية بكل شعوبها وطوائفها وأعراقها المتعددة. لكن نموذجاً واحداً لمحاولة اختراق هذا الحاجز قد يمنحنا ملمحاً لا بأس به لوجود نظرية عقد اجتماعي وأصل لفكرة الدولة الموحدة في الهند.

ثمة رأيان حول وضع الإنسان “ما قبل السياسي” في الهند، ويقصد من هذا المصطلح الحالة التي سبقت تكوين حكومة عامة؛ الأول، أن البشر عاشوا حياة سعيدة واتسمت بالانسجام التام بين بعضهم بعضا، وبينهم وبين الطبيعة، وعمّها السلام والنظام والانضباط ولم يعكّر صفو هذه الحال شيء. ومن ثم لم تكن هنالك حاجة لحكومة، أو اتفاق بين الناس، أعقد بينهم. ويطلق بعض المؤرخين على هذه الحالة استحساناً وصف “العصر الذهبي”[12]، وهو رأي يميل إليه منظّرون في العقد الاجتماعي مثل جان جاك روسو. أما الرأي الآخر، فيذهب إلى العكس. وعلى أي حال، يبدو أن الحالة الدينية في الهند سابقة لأي ترتيب سياسي، مثلها في ذلك مثل الصين. وتعدد الأديان والمذاهب في الهند خلق حالة مقابلة من تباين الأشكال السياسية وصيغها، فهناك مثلاً النظام الأبوي، ونظرية الأصل الإلهي في الحكم، والنظام الأمومي، وكذلك النظام الثوري.[13] وخير من جسّد النظام الأخير بوذا، الذي تمرّد على النظام البراهيمي الهرمي اجتماعياً في الهند، ونادى بدحض فكرة الحاكم العائلي أو ذي الحق الإلهي، واستبدال هذا النظام بفكرة الحاكم “ماهاساماتا”، أي “المُجتبى العظيم”.[14] أي أن الحاكم يجب أن يكون منتخباً من بين الناس، وليس بناءً على “حق إلهي” مزعوم، وهنا إشارة بالغة الوضوح لبلورة صيغة حكم وحكومة تقدمها النصوص البوذية “نيكاياه” (أي المجلدات المجمعة)، وتحديداً اثنان من هذه النصوص الخمس، ألا وهما كتاب “ديغا dīgha” (الخطابات) وكتاب “أنغوتاراه” (المجموعة التدريجية).[15] إذ يتطرق في أولهما إلى حاجة البشر إلى الدولة وأصولها بعد انتهاء العصر الذهبي نظراً لشيوع الجشع والأنانية وشرور أخرى. وعلى وجه العموم، ترقى النصوص التي وضعها بوذا لأن تكون نظرية متكاملة حول تطوّر المجتمع من الحالة البدائية، ثم إلى الريفية البسيطة، ثم المجتمع الزراعي وبروز ظاهرة تملّك الأرض، وصولاً إلى الحالة المدنية الكاملة، وهو ما أدى إلى الحاجة إلى تأسيس حكومة (أو أنماط حكومية بما أننا نتحدث عن الهند) التي لا بد أنها خرجت من رحم عقد اجتماعي ذي صيغة خاصة.

على الرغم من أن تعاليم بوذا جسّدت أولى النصوص التاريخية في نظرية الدولة، ونجد ذلك في النصّين المذكورين آنفاً من بين النصوص الخمس لبوذا، إلا أن أولى الآثار الدالة على وجود عقد اجتماعي تمثلت بالكتابات البراهمية التي ذكرت اختيار الآلهة أو الجبابرة (سورا असुर) للملك لكي يشن الحرب على الشياطين (آسورا أو آشورا). لكن الجديد الذي أتى به بوذا هو اقتراح نظرية لأصل الدولة عبر عقد اجتماعي يُبرم في العالم الواقعي، لا من خلال الزعم بصياغته على يد الآلهة. بيد أن من المهم إدراك توجيه بوذا لهذه التعاليم إلى رهبانه تحديداً من أجل إرشادهم نحو (الدارما)، ألا وهي المبادئ الأساسية لوجود الفرد والكون، أو ما يُطلق عليها كذلك “القانون الإلهي” عند الهندوس والبوذيين على حد السواء. لكن ثمة من يؤكد أن هذه التعاليم تشتمل على “نظرية عقد اجتماعي تستبق النظريات الحديثة التي جاء بها هوبز وروسو”.[16]

كانت أشكال الحكم في الهند أو شبه القارة الهندية عموما زمن بوذا، أي ما بين القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، لا تنحصر في النظام الملكي، بل ظهرت أنظمة أقرب إلى الشكل الجمهوري، ومنها “جمهورية شاكيا” التي تقع في إقليم “كابيلفاستو” في جنوب نيبال الحالية وعلى سفوح جبال الهمالايا. ولعل من المفيد الإشارة إلى أن كثيراً من تعاليم بوذا تنادي بمبادئ المساواة والعدل وروح الجماعة، وهذا لا يختلف عن المبادئ التي يصرّح العقد الاجتماعي بتجسيدها. ويبدو أن المشكلة التي قلبت حياة هذا الرجل رأساً على عقب هي في الأصل مشكلة سياسية. فالأمير سندهارتا (اسم بوذا الحقيقي) كان قد بلغ العشرين من عمره حين انضم لمجلس أو هيئة الحكم العام للجمهورية (سانغا संघ)، غير أن مشكلة وقعت بين بلده والجمهورية الجارة لها “كولياس” حول النهر الذي يفصل بينهما “روهيني”، وحصص مياه الري الزراعية المخصصة لكل منهما. فاجتمع المجلس بحضور سندهارتا لبحث القضية، واتجه الرأي نحو شن الحرب، فاعترض سندهارتا على ذلك مشيراً إلى أن ثمة إمكانية واسعة لحل المشكلة عبر المفاوضات، فانقلب (السانغا) على هذا الأمير وقرر أن يخيّره بين المحاكمة (ونتيجتها غالباً الإعدام) أو النفي، فاختار الحل الأخير. ونلاحظ هنا أمرين: الأول، أن هذه القصة تشبه إلى حد ما الوضع الذي واجهه الفيلسوف اليوناني سقراط الذي خيرته السلطة بين المحاكمة أو النفي، فاختار الحل الأول مفضلاً مواجهة الإعدام. أما الأمر الثاني، احتمال عدم صحة الرواية الشائعة عن بوذا حول اختياره الطوعي بالرحيل واعتزال الناس والتأمل الفردي والزهد في الحياة.[17]

على كل حال، يصعب سرد قصة نظرية العقد الاجتماعي في الهند عبر هذه المساحة القصيرة، غير أن ملامح هذه القصة تشير إلى وجود نظرية متكاملة في أصول الدولة وكيفية نشأتها في هذه البقعة المتحضّرة من العالم، ولعل النظرية الهندية في هذا الموضوع لها سمات أكثر تعقيداً من نظيرتها في أوروبا، الذي يحصر هذا الكتاب نفسه فيه. يستدعي هذا تخصيص مؤلفات مستقلة لدراسة تطوّر الفكر السياسي تاريخياً في هذه الحضارات الشرقية القديمة، لكي نقف -ربما- على أسباب وصولها إلى هذه الحال التي لا تبعث على الرضا والسرور. وأقول إن الهند تمثّل المعيار الأكبر لنجاح البشرية أو إخفاقها.

ثالثاً: العقد الاجتماعي في الإسلام:

عندما نتأمل مجمل النصوص الإسلامية (الكتاب والسنة الصحيحة) نقف أمام صيغة تعاقدية صريحة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يقول الله تبارك وتعالى:

{ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} التوبة-111.

وهذه مجرد بداية بسيطة تفتح لنا بوابة كبرى يظهر فيها بجلاء أن الإسلام جاء لبناء دولة أممية شاملة، وبناءً على ذلك كان لا بد من تأسيس وتأصيل لهذه الدولة، مع ترك شكل الحكم إلى الناس كلٌ حسب زمانهم وظروفهم، على شرط عدم خروجهم على مبادئ هذا التعاقد، وهذا جوهر نظرية العقد الاجتماعي التي يفصّل فيها هذا الكتاب.

أولى هذه المبادئ والأركان لنظرية الدولة في الإسلام نراه يتجلى في {وأمرهم شورى بينهم} الشورى-38. والتشديد لافت على هذا المبدأ باسم السورة كذلك “الشورى”. كما يطيب لي لفت الانتباه إلى ملاحظة لغوية هنا، وهو مضاعفة الضمير، “فالأمر” -وهو حكم الدولة وسياستها- مقرون بضمير ملكية غائب “هم”، ثم أكده تعالى في إلحاق الضمير نفسه في ظرف المكان “بين” ويقال إنه كذلك “ظرف مبهم، لا يتبين معناه إلا بإضافته إِلى اثنين فصاعدًا”[18]، وفي هذا تأكيد مضاعف في أن مسألة الحكم والشورى يتولاها جميع من هم ضمن هذه الدائرة (ألا وهم المسلمين) دون استثناء، ويحتوي المعنى هنا أيضا على مبدأ العمومية لا الحصر، لأن الضمير يعطينا فكرة الملكية لهذا “الأمر”، فهو “أمرهم” لهم وحدهم لا أمر غيرهم، وهو كذا “بينهم”، فتأمّل كثافة التشديد. “وخلاصة مبدأ الشورى في مدلوله القرآني الأصلي […] هو أن لا شرعية لحاكم من غير اختيار المحكومين له، وأن الحكم من غير اختيار المحكومين افتئاتٌ على الأمة وغصب لحقها في حكم نفسها. وقد ورد النص على الشورى عاماً لا مخصص له، وهو ما يعني حق الجميع في الإسهام في اختيار الحكام. فاختصاص نخبة بها لا يجوز إلا إن كان نيابةً صريحةً أو عُرفية عن عامة الناس.”[19]

لكن ما هي المظاهر الدالة على وجود صيغة عقد اجتماعي حسب المفاهيم الإسلامية؟ وما هي الآليات التطبيقية لهذا الخطاب السياسي الإسلامي، إن وجدت؟ الحقيقة أنني اطلعت على كتاب بعينه قدّم تفصيلاً لأصول هذا الخطاب، وهو كتاب أحدث جدلاً واسع النطاق عند صدوره في نهايات العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. إنه كتاب الأستاذ دكتور حاكم المطيري “الحرية أو الطوفان”. ويخصّص الكتاب جزءاً تأصيلياً لا بأس به لمسألة العقد الاجتماعي الإسلامي، لكن قبل استعراض بعض من هذه النقاط ذات الصلة بموضوعنا، أود الإشارة إلى ما ذهب إليه البروفيسور ليشنوف من أن مصطلح “العقد الاجتماعي” مضلّل بالفعل، فالمسألة سياسية بحتة، كما ذكرنا آنفاً، والعقد في الإسلام لا يختص به مجتمع أو جماعة بعينها، بل هو في الحقيقة بمنزلة عقد أممي، بمعنى الزعم بصلاحيته لكل الأمم والشعوب، وهذا يجسّد تحدياً بالغ الجسامة على البشرية كلها، ويقتضي بلورة متكرّرة ومتطوّرة تجسيداً لهذه المبادئ في كل عصر ومرحلة زمنية. في حين أننا نلاحظ أن صيغة العقد الاجتماعي التي بلورها جان جاك روسو مثلاً أنها “أوحت إلى الناس بفكرة جديدة هي “الوطنية أو القومية”. إذ أن العقد إنما يكون بين الإنسان والمجتمع الذي يعيش فيه وتتفق مصالحه مع مصالح الفرد ورغباته، لا مع مجتمع آخر بعيد مهما كانت قوة الصلة الدينية به، فهي تهدف إلى نزع ولاء الفرد من الكنيسة واعطائه للدولة، وإلى قطع الروابط الدينية ليحل محلها روابط وطنية. كما أنها جعلت القيمة العليا للمصلحة المادية الدنيوية التي بسببها تم إبرام العقد، وليست للملكوت الذي تبشر به المسيحية أو المثل أو الفضائل التي كان المجتمع يعدها أغلى ما يملك.”[20] ما يذكره الأستاذ دكتور سفر الحوالي هنا يلقي بظلاله على المقارنة بين فكرة العقد الاجتماعي التي بُعثت من جديد في أوروبا القرن الثامن عشر، والفكرة الإسلامية للعقد ومدى صلاحيتها وقابليتها للتطبيق لكل الشعوب والأمم، وهو بالمناسبة ما تفترضه نظرية العقد الاجتماعي، كما يذكر مؤلف هذا الكتاب الذي ترجمناه. فإذا صحّ عن روسو والمنظرين الأوروبيين ذلك، “فليس بعيداً […] أن كان يلتمس المعاذير لنقض العقد الاجتماعي وهدمه أكثر مما يؤكد ضرورته.”[21] ومما لا جدال فيه أن فكرة القومية أو الوطنية شاعت واستفحل أمرها في العالم بأسره بُعيد اندلاع الثورة الفرنسية عام 1789، وإبان فترة حكم نابليون بونابرت فرنسا وتصديره للثورة أوروبياً، وأحد أدبيات هذه الثورة كتاب العقد الاجتماعي لجان جاك روسو “العقد الاجتماعي”.

يضع الدكتور المطيري في كتابه “الحرية أو الطوفان” عشرة أسس لما يسميه “الخطاب السياسي الإسلامي المنزّل” كلها تقريباً ذات صلة مباشرة أو غير مباشرة بعقد الحكم في الإسلام، ولا نستطيع لضيق المساحة تناولها بالشرح جميعاً، بل سنتطرق إلى بعض من أهم ملامحها التي تعيننا في بحثنا، وهي كما يلي:

1) ضرورة الدولة للدين، وأنه لا دين بلا دولة. 2) ضرورة إقامة السلطة وأنه لا دولة بلا إمام. 3) ضرورة عقد البيعة، فلا إمامة بلا عقد. 4) وأنه لا عقد بيعة إلا برضا الأمة واختيارها. 5) ولا رضا بلا شورى بين المسلمين في أمر الإمامة وشئون الأمة. 6) وأنه لا شورى بلا حرية. 7) وأن الحاكمية والطاعة المطلقة لله ورسوله. 8) تحقيق مبدأي العدل والمساواة. 8) حماية الحقوق والحريات الإنسانية الفردية والجماعية وصيانتها. 10) وجوب الجهاد في سبيل الله.[22]

تؤكّد هذه الأسس على صيغة تعاقدية تسعى إليها دائما “نظرية العقد الاجتماعي”، وتتطلب في الوقت نفسه تحليلاً موضوعياً دقيقاً لمدى صلاحيتها العامة، لا سيما من منظري العقد المعاصرين في الغرب.[23]

من أهم المظاهر التي تشير لوجود عقد اجتماعي شامل في الإسلام إبرام ما أطلق عليه بيعة العقبة الأولى وبيعة العقبة الثانية التي عقدهما الرسول ﷺ، وكانت الأولى بيعة إيمانية للدخول في الدين، أما بيعة العقبة الثانية -وهي التي تهمنا هنا- فهي التي تظهر فيها ملامح الدولة جلية، إذ هي “بيعة على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره”، وبعبارة أخرى “هي بيعة الحرب” بلا شك. وكان الرسول ﷺ قبل ذلك قد عرض البيعة نفسها على عدة شخصيات بارزة ومنهم شيخ بني شيبان المثنى بن حارثة، فأدرك هذا الأخير “أن هذا الأمر هو مما تكرهه الملوك”.[24] وهذا دليل لا يحتاج إلى برهان أن صيغة الدولة الإسلامية أممية وعابرة للحدود والمجتمعات، ولعل هذا السبب في تعقيد صيغتها التعاقدية وعدم إدراك كثيرين فكرة الدولة التي جاءت بها، مع ترك شكل النظام إلى كل ظرف زمني وبشري.

ثم تترتب بناءً على هذا الوضع الصيغة القانونية التي يحكم فيها النظام الإسلامي المجتمع وكيفية تحقق ذلك تاريخياً. يُقال إن أول دستور مكتوب[25] هو دستور الولايات المتحدة الأمريكية الذي خرج إلى النور بُعيد استقلال البلاد من سلطة المملكة البريطانية وذلك في عام 1781. لكن الحقيقة أن الرسول ما إن وصل إلى يثرب (التي أصبحت لاحقاً “المدينة المنورة”) حتى صاغ دستوراً مكتوباً واستشار فيه كل مجتمع المدينة، بما فيهم قبائل اليهود، وهو ما أُطلق عليه “صحيفة المدينة”. فهو ﷺ حينئذ رئيس دولة حديثة الولادة، بالإضافة إلى كونه نبياً ينزل عليه الوحي، ويريد أن يؤسس قاعدة متينة لدولة يمنح فيها الحقوق ويوزع الواجبات على قدر المساواة بين الناس كافة، فما هي أبرز ملامح هذا الدستور؟

“حوى هذا الدستور اثنين وخمسين بنداً […]. خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الديانات الأخرى، ولا سيما اليهود وعبدة الأوثان. وقد دُوّن هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الديانات الأخرى بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء. وُضع هذا الدستور في العام الأول للهجرة، أي سنة 623 للميلاد. ولكن في حال مهاجمة المدينة من قبل عدو عليهم أن يتحدوا لمجابهته وطرده.”[26] ويقدم كتاب كونستنتين جورجيو “نظرة جديدة في سيرة رسول الله” بدءاً من صفحة 193 سرداً لا بأس به لبعض بنود صحيفة المدينة التي حددت الواجبات ووزعت الحقوق على مستحقيها، كما حددت العقوبات التي قد توقع أي مخالف لهذه البنود بعد الموافقة عليها. واللافت للنظر أن كتاب ليشنوف يذكر أن معظم منظري العقد اتفقوا على استحالة أن يوافق الناس كافة على أي عقد اجتماعي، لكننا نلحظ أن الرسول ﷺ حرص على توقيع كل وجهاء الناس وأشرافهم ورؤسائهم أو من ينوب عنهم على الصحيفة. وبهذا اكتملت أركان المواطنة والدولة، لكن ثمة نقطة تقتضي الوقوف عندها، مع أنها شائكة إلى حد ما.

الصيغة التعاقدية التي يعرضها الإسلام هي بلا شك نابعة من نصوص مقدسة، في حين أننا نرى أن ما يذكره كتاب “العقد الاجتماعي” للبروفيسور ليشنوف، أو أي تناول غربي حديث لهذا الموضوع، فيه ملمح واضح للاستنكاف من النظرية الدينية في العقد الاجتماعي، وأعني تحديداً النظرة الغربية، العلمانية أو الليبرالية، سمّها ما شئت، وهو استنكاف قد يصل إلى حد الازدراء والرد التام. وهذا سلوك مفهوم نظراً للصراع القديم الذي اندلع بين الكنيسة وكل ما هو حديث ومتنوّر، وتمخّضت عنه حالة تنازع شديدة ظهرت من خلال عدة حقبات متتالية، مثل عصر النهضة الأوروبية، ثم حركة الإصلاح الديني، ثم الانتقال إلى مراحل التطور العلمي والفكري والتقني الغربية، وخلال هذه الفترات تآكل رصيد الثقة بالتوجهات الدينية بفرعيها الكاثوليكي والبروتستانتي. وعلى هذا، لن يكون لما تقدمه النظرية الدينية المسيحية في العقد أي مصداقية علمية أو سياسية. كل هذا مفهوم، لكن هناك من يحاول إسقاط هذا الواقع على النظرية الإسلامية السياسية، وهذه نظرة غير علمية، ولا منهجية، ولا منصفة. لأن غاية أي نظرية اجتماعية أو إنسانية في نهاية المطاف الوصول إلى تحقيق خير البشرية وسعادتها ورفاهيتها الشاملة، ورفض الوقوف عند النظرية الإسلامية وعدم دراستها بجدية، بحجة أنها مجرد نظرية دينية قد تتماثل مع التجربة المسيحية في أوروبا التي واجهت عصوراً متخلفة ومتأزمة بسببها، فيه ظلم للبشرية بلا شك. والأحرى التخلص من هذه “العقدة” والانفتاح على جميع الأفكار ودراسة مدى جدواها للبشر كافة وتحقيق مقاصد العدل والمساواة والحرية فيهم. وهو ما تبتغيه كل نظرية جادة، وعلى رأسها “نظرية العقد الاجتماعي” في الإسلام.

عن ترجمة الكتاب:

تفاوتت اللغة التي استخدمها البروفيسور مايكل ليشنوف في كتابه “العقد الاجتماعي” بين السرد التاريخي واستخدام بعض المصطلحات القانونية التي، على قلّتها، توقفنا عندها كثيراً حرصاً على صحتها ودقتها. غير أن الأسلوب العام للعمل نحا إلى اللغة السياسية والتاريخية، وهو ما أظن أن لي خبرة مناسبة فيه -إلى درجة ما بطبيعة الحال- لكن هذا لا يعني بحال من الأحوال عدم طرق كل الأبواب المتاحة للسؤال عن تعريب مناسب لمصطلح أو عبارة ما، ويبدو أنني أزعجت كثيرين بهذا الطرق. ثم أن الكتاب نحا في فصوله الأخيرة إلى استخدام بعض المصطلحات الاقتصادية والتقنية، وقد بذلتُ فيها جهداً مضاعفاً نظراً لتخصصها الفني، وأرجو أن يجد القارئ الكريم لغة سهلة يسيرة تمكّنه من فهم هذه الأفكار المتخصصة، وآمل أن أكون قد نلت شيئاً من التوفيق بإيصالها لذهن القراء بسلاسة.

وربما أضطر دائماً في كل عمل أخوض غمار ترجمته إلى توضيح نقطة منهجية التزم بها منذ أن لامست أناملي أقلام الترجمة قبل عشرين سنة ونيف، وهي نقطة مثيرة للجدل عند معشر المترجمين. إنها ببساطة مسألة “لفظ الجلالة” (الله) سبحانه وتعالى، وجعله مقابلاً لكلمة God. والمنهج الذي التزم به هو انعدام جواز ذلك من الناحية الدلالية والثقافية على الأقل، ناهيك عن الدلالة الوظيفية والدينية اللاهوتية والمعجمية، وأعلم أن هنالك من الأساتذة من يعترض على هذا المنهج، والجدل في ذلك قديم. بيد أنني أحبذ استخدام المفردة الأشمل التي لا شك في صلاحية دلالتها على مفهوم God (وكذلك عند كتابته بحرف صغير god) ألا وهي “الرب”. والمسألة التي تواجهنا تحديداً عند ترجمتنا من اللغة الإنكليزية إلى نظيرتها العربية اختلاف المدلول الثقافي في اللغة المصدر لماهية هذا المفهوم بالضبط ودلالته اللاهوتية، ما يستدعي دراسة دقيقة له واختيار تعريب يناسبه بدقة وابتعاد عن فخ الاختلاف الدلالي قدر الإمكان. أما عند ترجمتنا من اللغة العربية إلى الإنكليزية فالمسألة تختلف والآية تنقلب، ولن ألج هذا الباب لأنني أقصد المسألة الأولى. من المعلوم أن God في اللغات الأوروبية يعني التقسيم الثلاثي للمفهوم اللاهوتي عند المسيحيين (الأب، الابن، الروح القدس)، ووضع لفظ الجلالة كمقابل لهذا المفهوم لا يحدد من هو (أو ما هو) المقصود الدلالي بالضبط من هؤلاء الثلاثة، في حين أن لفظ الجلالة بغنى عن هذا التحديد، لأنه يشير إلى “واحد” ولا أحد غيره، فهو “أحد صمد” كما وصف نفسه سبحانه وتعالى. ومن ثم تحدث المغالطة الكبرى عند الحيد عن هذا المسلك. أيضاً ومرة أخرى، أنا متأكد أن كثيراً لن يقتنعوا بهذا الكلام، لكن دعني أقدم في هذا الصدد مثالين على هذه المغالطة علّهما يعينان على توضيح المقصود منها.

المثال الأول، خرج العالم الفيزيائي المعروف ألبيرت آينشتاين بمحصلة من دراسته الفيزياء والفيزياء الفلكية والكون أوجزها بعبارة قال فيها:

God does not play dice with the universe.

فترجمها بعضهم إلى عبارة مثل “الله لا يلعب النرد مع الكون” أو أوّلها آخرون إلى “لم يكن الله ليلعب النرد عندما خلق الكون”. وهذه ترجمة تخالف أبسط قواعد المنطق، وهي أن يلمّ المترجم بخلفية المتحدث الثقافية، وهي أن هذا الرجل “لا يؤمن بإله أو رب شخصياً”[27] كما كتب في ذلك مقالاً في عام 1954معللاً هذه المسألة. لكن بول هالبيرن في كتابه “نرد آينشتاين وقطة شرودنغر” وقد ترجمت مقدمته قبل بضع سنوات،[28] يؤكد أن آينشتاين في الحقيقة يؤمن برب يختلف عن مفهوم أي رب مسيحي أو إسلامي. إذ يقول هالبيرن إن “آينشتاين يؤمن بالإله الذي ذكره المفكر الهولندي اليهودي باروخ إسبينوزا، ” ألا وهو أفضل تمثيل رمزي ممكن للنظام الطبيعي، وقد جادل إسبينوزا أن الرب، هو المرادف للطبيعة.”[29] وهذا الرب الذي يقصده إسبينوزا، واتبعه في ذلك آينشتاين، حالة ليست بالجديدة، بل يصفها المفكر عبد الوهاب المسيري أنها قادمة من “المذاهب التي تؤمن بالحلولية والكمونية”، أي أن الخالق حالٌ في الطبيعة وكامن فيها. فهل يصحّ بعد هذا الفهم للمقصود العميق للعبارة وقائلها أن يترجمها أحدهم “الله لم يلعب النرد مع الكون”؟ أترك هذا لحكم القارئ الفطن.

المثال الثاني: نشر الأديب الألماني فردريش نيتشه كتابه، الذي يصعب تصنيف جنسه الأدبي (فهل هو رواية، أو فلسفة، أو في التاريخ، أو في نقيض الفلسفة…إلخ؟)، “هكذا تحدث زرادشت” Also sprach Zarathustra، وذكر في بدايته عبارة يقولها زرادشت الذي يتخيله نيتشه:

Gott ist tot

وتساويها في الإنكليزية God is dead، ثم تأتينا الترجمات المبتذلة لتقول إنها تعني “الله قد مات”! حدثتني مؤخرا الدكتورة نداء عادل، وهي خبيرة ترجمة ولغات أوروبية، أن كل هذه الترجمات التي وضعت لفظ الجلالة مقابلاً لعبارة نيتشه هي ترجمات خاطئة جملة وتفصيلاً، ومن ثم تخفق في نقل النص بروحه ومعانيه المقصودة. وهناك للأسف الشديد من أخذ يحلل ويبني نظريات بناءً على هذه الترجمات الواهنة والمغلوطة. تتعلق هذه النقطة بما يُطلق عليه “حساسية الترجمة”، وتأتي عادة في الترجمة الدينية أو عند استخدام المصطلحات الدينية، فهذه مفردات حسّاسة، ولا بد من مراعاة حساسيتها الثقافية؛ ومنه على سبيل المثال، مراعاة الحساسية الثقافية عند نقلنا لمفهوم الآلهة في ديانة الشينتو عند اليابانيين “كامي 神”. وبناءً على ذلك، ما زلت متمسكاً بهذا المنهج إلى أن يثبت لي عكسه، وسنرى في الكتاب استخدام لفظ “الرب” شائعا عند ورود God بجميع أشكالها.

أنوه إلى أن المؤلف لجأ إلى وضع صيغة مصغرة للمصدر بجانب كل استشهاد، وهو ما آثرتُ أن أنقلها كما هي دون ترجمة، تسهيلاً للوصول إلى المرجع. فوضع مثلاً عند ذكر المصدر الحرف الأول من اسم مؤلف المرجع والحرف الأول من اسم كتابه المعتمد، ثم رقم الصفحة، مثال (LDL, 75-6) أو يلجأ أحيانا إلى ذكر اسم المؤلف كاملاً فقط مع سنة نشره لمرجعه وأرقام الصفحات المقتبسة، مثال: (Fowler, 1967, p.166)، وكل هذا في متن النص، لا في الحواشي السفلية، كما أن الوصول للمرجع بناءً على هذا النظام سهل يسير، إذ حرصنا على وضع قائمة المراجع (بيبليوغرافي) في ذيل الكتاب حسب النظام الذي وضعه المؤلف، ثم ألحقنا عليها المراجع والمصادر التي استعان بها المترجم.

وختاماً أتوجه بجزيل الشكر إلى دار العولمة ممثلةً بشخص رئيسها الأستاذ الفاضل عبد اللطيف النصف، لثقتهم بالمترجم لإعداد هذا الكتاب ونقله إلى اللغة العربية، عسى أن يقدّم إضافة إلى المكتبة العربية تفيد القراء وتعينهم على فهم هذه المادة. وأشكر كذلك الأستاذ دكتور أحمد الليثي رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية، لتوجيهه وإرشاده وصبره على تلميذه، إذ لن تكون لنا قيمة إلا بأخذ العلم من أهله. كما أن ليس لي غنى عن توجيهات أستاذي المثقف الصارم دكتور عبد الحميد مظهر. وأقدم جزيل الشكر أيضاً إلى الأستاذ دكتور وليد عبد الحي الرئيس الأسبق لقسم العلوم السياسية في جامعة اليرموك في المملكة الأردنية الهاشمية، الذي رد على استفساراتي مشكوراً دون سابق معرفة، وهو من أعلام الفكر في الوطن العربي، فجزاه الله خيراً. والشكر موصول إلى الأخت الأستاذة دلال نصر الله مترجمة اللغة الإيطالية البارزة لوضع ملاحظاتها على بعض المصطلحات. كما أشكر الصديق المثقف الأستاذ محمد كمال المرموشي من المملكة المغربية على نقاشاته الغنية والمحفزة للوصول إلى المعلومة.

كما يسرني إهداء هذا الكتاب إلى الأخ العزيز الأستاذ عبد الواحد العبادي، في مدينة رسول الله ﷺ المنورة.

فالحمد لله حمداً كثيراً الذي بفضله تتم الخيّرات، وصلى الله وسلّم على رسوله المصطفى النبي الأمّي الأمين

فيصل كريم الظفيري

الكويت، 25/يوليو- تموز/2021

الموافق، 15 ذو الحجة 1442

•         Yunsheng, Liu (2020), The History of the Contractual Thoughts in Ancient China, 1st edn, (New York: Springer, China: Law Press. China)

–         https://www.yourarticlelibrary.com/political-science/3-theories-of-origin-of-state-in-ancient-india/40149

–         https://countercurrents.org/2021/02/buddhist-political-theory-social-contract-theory-of-the-origin-of-state/


[1] يبدو أن الأصح في نطق اسمه هو “ليشنوف” نظرا لأنه من أصول يهودية قادمة من أوروبا الشرقية، كما أن من المعلوم في اللغة العبرية أن نطق صوت (ش) يقابله صوت (س) في العربية، كما في قولهم “شالوم” ويقابله قولنا “سلام”. (المترجم)

[2] Mallam, Sally “China: Axial Age Thought.” Article on The Human Journey web site

[3] Yunsheng, Liu. The History of the Contractual Thoughts in Ancient China, p. 3

[4] Ibid, p. 3

[5] Ibid, p. 2

[6] Ibid, p. 4

[7] Ibid, p. 4

[8] Ibid, p. 4

[9] Ibid, p. 5

[10] Ibid, p. 5

[11] Ibid, p. 7

[12] https://www.yourarticlelibrary.com/political-science/3-theories-of-origin-of-state-in-ancient-india/40149

[13] Ibid

[14] https://countercurrents.org/2021/02/buddhist-political-theory-social-contract-theory-of-the-origin-of-state/

[15] https://en.wikipedia.org/wiki/Nik%C4%81ya#Text_collections

[16] Ibid

[17] https://countercurrents.org/2021/02/buddhist-political-theory-social-contract-theory-of-the-origin-of-state/

[18] معجم الوسيط

[19] د. محمد الشنقيطي، أمهات القيم السياسية في القرآن والسنة 2، مقال، 15-12-2016.

[20] سفر الحوالي، العلمانية، ص 215.

[21] المصدر السابق

[22] أ. د. حاكم المطيري، الحرية الطوفان، الفصل الأول “المرحلة الأولى: الخطاب السياسي الشرعي المنزّل (1-73 هـ)”

[23] الحق أنني خاطبت الدكتور حاكم المطيري في منتصف العقد الماضي حول ترجمة كتابه إلى اللغة الإنكليزية، وأبدى ترحيبا بذلك. لكن ظروفا عدة حالت دون البدء بهذا المشروع، ومنها عدم عثورنا على دار نشر أجنبية ملائمة، وكذلك تطلّب هذا العمل عدة مراجعات مستفيضة، وربما إضافة فصول أخرى أو إعادة صياغة لبعضها، وخصوصا الفصل الأخير الذي يهتم بقضية عربية في القرن العشرين، قد لا تهم القارئ الغربي كثيرا. لكن على أي حال، فكرة ترجمة الكتاب ما تزال قائمة، إلى أن ييسر الله تعالى أمرها. (المترجم)

[24] المصدر السابق، ص 18.

[25] تضيف الوكيبيديا العربية في هذا الصدد عبارة لا تذكرها الوكيبيديا الإنكليزية في مقدمتها بمادة “دستور الولايات المتحدة” ألا وهي ” أقدم دستور مكتوب غير منقطع الاستعمال في العالم”. ولا نعلم مصدر عبارة “غير منقطع الاستعمال في العالم، حيث أن رابطها محذوف المحتوى. (المترجم)

[26]جورجيو، كونستانتين (1983) نظرة جديدة في سيرة رسول الله، ترجمة: محمد التونجي، ط 1، (بيروت: الدار العربية للموسوعات).

[27] https://www.businessinsider.com/god-does-not-play-dice-quote-meaning-2015-11

[28] https://faisalkareem.com/2020/05/25/einsteinxshrodinger/

[29] المصدر السابق.

أضف تعليق