ستارتريك، والسياسة و”الميني جيب” – بقلم: فيصل كريم الظفيري

يقول المفكر الراحل د. عبد الوهاب المسيري “لو شاهدنا مسلسل الرسوم الكرتونية الظريف توم وجيري، فسنواجه الثقافة الغربية الرأسمالية بشيء من الوضوح”.

وعلى هذا، لو شاهدنا كذلك مسلسل الخيال العلمي الكلاسيكي “ستارتريك” فسنقع قطعا على صورة متطورة ومجرّدة عن هذه الثقافة الغربية، لكنها تتسم بأبعاد أكبر من التعقيد والتركيب.

يقال إن الإنسان ابن عصره، ونجد تطبيقا لهذه المقولة في هذا المسلسل متعدد المواسم والأجزاء، الذي تبعته سلسلة أخرى من الأفلام. بدأت السلسلة الأصلية لستارتريك في أواخر سنة 1965 وانتهت في 1969. وقد ناقشت مجموعة من المواضيع والقضايا المهمة التي تعالج شؤون هذه الفترة الخطيرة من عمر الولايات المتحدة (أي فترة اضطراب الستينيات حين بدأت بقتل رئيس، وانتهت بعزل آخر، وتخللتها هزيمة نكراء في فييتنام). فيما السلاسل التي ظهرت لاحقا لستارتريك، مثل جزء “الجيل اللاحق” Next Generation سنة 1987 وجزء “الفضاء التاسع العميق” Deep Space Nine سنة 1993 وأجزاء أخرى لاحقة، عالج كل منها قضايا مختلفة عن السلسلة الأصلية التي ابتدعها جين رودنبيري.

حاول جين رودنبيري بكل ما يستطيع أن يمد بعمر السلسلة، التي كان بطلها وليام شاتنر ولينارد نيموي (وأحدث الثاني بشخصيته الفضائية الغريبة التي تُعلي من المنطق والتفكير العلمي تأثيرا بالغا في الجماهير التي عشقت ستارتريك)، لكن شبكة إن بي سي التي عرضته قررت الاكتفاء بثلاثة مواسم فقط، فتحطم حلم رودنبيري والجماهير التي أصابها الهوس بالعمل.

أما المواضيع التي عالجها رودنبيري وألبسها عدة أشكال في السلسلة، فتنوعت ما بين الجوانب السياسية (وهو فكر أدب سياسي ليس سهلا) والاجتماعية والدينية والتقنيات الحديثة. تجلّت كثير من الأفكار السياسية التي حاول أن يبلورها العمل، مثل فكرة الديمقراطية الغربية، وتحرير الشعوب التي ترزح تحت نير الاستبداد؛ فكل كوكب وحضارة تمرّ عليها السفينة “إنتربرايز” تعادل شعبا من الشعوب التي يراها الكاتب تعيش تحت الطغيان، ولا بد أن تنتفض (حسب المفهوم الغربي الأمريكي). ونلاحظ أن السعي الأمريكي لتصدير “الديمقراطية” بدأ مبكرا قبل ذلك، مستخدما أدوات مثل التبشير المسيحي، أو المساعدات الإقتصادية، أو حتى الإعلام والقوة الناعمة. حاول جين رودنبيري جاهدا تغليف هذه الأهداف “الأمريكية” بقشور متعددة، كتنويع جنسيات طاقم السفينة الفضائية بوجود ضباط أوروبيين (اسكتلندي: سكوت، وروسي: تشيكوف) وأفارقة (ضابطة الاتصال أوهورا الكينية الأصل، أدت دورها نيتشيل نيكولز) وكلهم بطبيعة الحال أمريكان. وثمة غطاء آخر استخدمه المؤلف تمثل بتعزيز فكرة الأسطول العسكري المتحالف؛ وتشير بعض المصادر إلى أنه يقصد منظمة الأمم المتحدة (ولعله يقصد حلف النيتو كذلك)، وتكوين تحالف عسكري من “الأمم الحرة” كما يصرح الأمريكان عادة. وهذه فكرة سياسية بامتياز يطرحها المسلسل بلا مواربة؛ ولعل هذا يدلل على أن هذه المنظمة تجسد الفكر الغربي والأهداف الأمريكية الواضحة. ونلاحظ كذلك أن هذا التفكير السياسي وإسقاطه على المسلسل يعكس أحوال تلك الفترة الزمنية، ورؤية الولايات المتحدة لها؛ إذ تنازعتهم ظاهرتين: أولاهما، مسألة القلق الشديد من احتمال وقوع حرب نووية وهيدروجينية مدمرة لا تبقي ولا تذر (وهو ما عبّرت عنه الأدبيات الغربية بتكوين صنف أدبي يدعى “الكارثة وما بعدها” Post-apocalypse)، وثانيهما، الحرص على حشد أكبر عدد ممكن من الحلفاء ومقاومة المد الشيوعي آنذاك، وهو ما أوقعهم في مشكلة فييتنام، التي يناقشها المسلسل كذلك، وإن كان بأسلوب غير مباشر عبر عدة حلقات.

أما عن القضايا الاجتماعية التي طرحها العمل فتتجلى بمسألتين مهمتين: 1- الحركة النسوية 2- والجنس. وعندما نقول الجنس، فنعني بذلك إشارات غير مباشرة يقدمها العمل عبر قضايا مثل التكاثر وعدد السكان، وعلاقة ذلك بالموارد ووفرتها، ووجود السعادة والهناء عند قلة السكان وكثرة تلك الموارد، وهي الوصفة نفسها التي تحثّ عليها المنظمات الأممية وتوصياتها، التي تتحول غالبا إلى أوامر ونواهي إلى دولنا، على اعتبار أننا “أمم متخلفة” و”غير عقلانية”! وكل هذا وذاك يُقدم بطريقة شهوانية نوعا ما، وهو ما يقودنا إلى مسألة الحركة النسوية Feminism.

وكما ذكرنا آنفا، فإن فترة الستينيات تجسّدت فيها ذروة الثورة النسوية، حين برزت فكرة المرأة القادرة على الاستقلال الذاتي، وممارسة حريتها بالطريقة التي تعجبها، دون التقيد بأي ضوابط اجتماعية أو حتى أخلاقية؛ فما يهم هو المصلحة الذاتية للمرأة وشعورها بالاستقلال، بما يتضمنه ذلك من حريتها في إقامة علاقات حميمة والإجهاض وغير ذلك من رزايا، ومن نافلة القول إن الولايات المتحدة تستخدم حاليا “الحركة النسوية” وأذرعها بوصفها أحد أهم نقاط الترغيب في سياستها الخارجية. ومع أن المسلسل يندرج ضمن إطار الخيال العلمي، لكن المسائل التي “دحرجها” علينا وصلت إلى مثل هذه الدرجة من الحساسية. الغريب في المسلسل الأصلي (66-1969) أن الرداء الرسمي الذي ترتديه معظم الممثلات شهواني للغاية، إذ ارتدت من قمن بأدوار طاقم إنتربرايز تنورات قصيرة جدا، مع وضع جراب نسائي أسود وطويل (وهو ما يزيد من الشهوانية) وسراويل شبه ظاهرة لا يكاد يسترها شيء، في حين المسلسلات والأجزاء التي ظهرت في الثمانينيات والتسعينيات لم تكن بهذا “الانكشاف” الشهواني، ولعل السبب في ذلك أن المسلسل جاء في ذروة الثورة الجنسية التي اندلعت في الغرب وقتذاك، وقلدها -للأسف- لدينا أناس كثيرون وسمحوا بظهور “الميني جيب” الفاضح في الأماكن العامة، أو الخنافس و”الزلوف” العريضة، وبنطلونات الشارلستون الضيقة من الأعلى و”المتبهدلة” من الأسفل. ولا أعلم كيف تسمح تلفزيونات عربية بعرض مثل هذه اللقطات الشهوانية والمخجلة، لولا أن هذه الفترة كانت فعلا تجسّد مرحلة من الانحطاط الخلقي العام وتطبيعا للشهوانية في كل مكان، (ما علينا).

ناقش المسلسل الأصلي قضية أخرى لا تقل أهمية، ألا وهي الدين. والحق أن ما قصده العمل من الدين فكرة الإلحاد. إن تطور العلم عند الغرب يقترن غالبا بمسألة الإلحاد، وعدم جدوى الدين، أو الإيمان الغيبي بإله خالق وراء الكون. المثير للضحك والسخرية في آن واحد، أن إحدى الحلقات أظهرت السفينة إنتربرايز وهي تقع على كوكب يظهر منه “الإله أبولو” الذي يجبر السفينة على التوقف، وهبوط طاقمها لكي يعبدوه حق عبادته في كوكبه الغامض هذا، حيث يعدهم بأنه سيكون إلها محبا وكريما لعباده، هنا يصرّح المؤلف على لسان ممثليه أن “عبادة الإلهة ولى زمانها يا سيد أبولو”، ورسالة العمل من ذلك واضحة، وتتجلى بعدم الإيمان بأي إله، لا آلهة الإغريق الأسطورية فقط. وبعد أن يسقط في يد أبولو “العاشق لعباده”، يبكى وينادي أباه زيوس “أن خذني إليك من هؤلاء القوم الجاحدين”. وبطبيعة الحال، الإله الجديد الذي أمسى يؤمن به هؤلاء هو العلم والتقنيات الحديثة، وما زال كثير من الناس يؤمنون بهذا الإله، إن جهرا أو سرا، مع أنه إله يقف عاجزا حاليا أمام حُمّة صغيرة لا ترى بالعين المجردة اسمها “الحُمّة التاجية” (كورونا).

لعل هذه القراءة الموجزة لهذا العمل تستحق شيئا من التعميق والتأطير لترقى ربما إلى رسالة ماجستير أو دكتوراة، سعيا لاستقراء الفكر الثقافي والإمبريالي الغربي والأمريكي، تحديدا أثناء تلك الفترة الحرجة. وعن نفسي، أتذكر مشاهدتي لبعض الحلقات المتقطعة للمسلسل في تلفزيون العراق في منتصف الثمانينيات (كان بثه يصل للكويت بوضوح في معظم الأحيان)، ولم يكن يعرض وقتذاك في تلفزيون الكويت لأن وقت عرضه قد انقضى، لكنني أعتقد أنهم عرضوه في وقته (ربما في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات حين لم تتوفر أجهزة تلفاز عند معظم الناس)، ولعل الدليل على عرضه انتشار “الميني جيب” والشارلستون”!

أضف تعليق