ورطة صلاح الدين~~ تطارد سكوت، ومن قبله شاهين — بقلم فيصل كريم الظفيري


يشترك المخرجان يوسف شاهين وريدلي سكوت في خوضهما معا مغامرة صنع فيلم عن صلاح الدين الأيوبي والحملة الصليبية الثالثة (هنالك اختلاف بين المؤرخين حول رقم هذه الحملة الصليبية التي وقعت فيها معركة حطين والمعارك الملحمية التي تلتها). اختلفت دوافع كل منهما للإقدام على هذه المجازفة السينمائية نظرا للتكلفة العالية لتصوير هذه الملحمة الكبرى والمنازلة الصريحة العظمى. فما هو الثمن الذي دفعه شاهين وسكوت جراء المغامرة ومحاولة لي عنق التاريخ الثابت؟ ومن منهما أقل وطأة في التحريف والتزوير في صفحات التاريخ “لأغراض درامية” (طبعا)؟

فأما يوسف شاهين الذي أخرج فيلمه الناصر “صلاح الدين” سنة 1963، فلم يعرف عنه خوضه تجربة الأفلام التاريخية الملحمية من قبل، وكان أبرز نجاح حققه في عالم السينما فيلم “باب الحديد” سنة 1958 الذي كاد أن يترشح لجائزة الأوسكار. ويبدو أن الحظ لعب لعبته مع هذا المخرج إذ كان يفترض أن يخرج العمل عز الدين ذو الفقار، وخبرته في في الأعمال الحربية السينمائية أكبر شيئا ما من شاهين بحكم إخراجه فيلم مثل “أبو زيد الهلالي” سنة 1947، إلا أن القدر لم يمهل ذو الفقار الذي وافته المنية في العام نفسه الذي أنتُج فيه الفيلم. ودوافع يوسف شاهين لإخراج العمل يبدو أنها جاءت بسبب طموحات آسيا داغر (المنتجة) بتحقيق نجاح جماهيري كاسح لا سيما وأنها تلقت دعما حكوميا لوجستيا إذ قيل حينها إن 20 ألفا من جنود الجيش المصري اشتركوا بالحشود العسكرية بالفيلم (قرأت هذه المعلومة وتحتاج تأكيدا). لكن ما حدث هو مفاجأة مزعجة بكل المقاييس لآسيا داغر إذ لم يتكالب الناس على شباك التذاكر كما تمنت وتصورت، فتكبد الفيلم خسائر باهظة جعلت آسيا داغر تفلس فعليا بالرغم من المعونة الحكومية.

ورطة يوسف شاهين تجسدت في سلسلة من الأخطاء التاريخية الغريبة التي ظهرت في الفيلم، ويبدو أن أغلبها مقصودة. أما أبرزها فتصوير والي عكا أنه خائن وسلّم المرفأ للعدو دون قتال. فمن هو والي عكا المقصود (أدى دوره توفيق الذقن)؟ إنه بهاء الدين قراقوش الذي تولى الولاية على المدينة في هذا الوقت الحرج وكلفه صلاح الدين بالاستبسال في الدفاع عن المدينة تحت أي ثمن. وفعلا، تؤكد المصادر الأجنبية أن صمود عكا استمر عامين متتاليين، تخللهما هجمات قراقوشية بعثرت حسابات الصليبيين. فلمَ هذا التحريف المقصود؟ يبدو أن الخليط العجيب من كُتّاب الفيلم المكون من يوسف السباعي وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب محفوظ لم يكنوا الود كثيرا لشخصية بهاء الدين قراقوش، وجعلوا شخصيته لقمة سائغة للتناول الدرامي المجحف، وهذا من الإفك العظيم بل ويقتضي رفع دعوى حسبة قضائية لإعادة الاعتبار لهذا القائد البارز الذي لم يرفع سلاحا بوجه شعبه بل لم تطب له حياة إلا بالكرّ على الأعداء. نستطيع القول إن هذا التشنيع لا يغتفر من يوسف شاهين، لكن فيما يتعلق بالأخطاء الأخرى فمن الممكن أن نتفهم “الغرض الدرامي” مع أن بعضها مفتعل وبعضها الآخر سياسي، مثل جعل شخصية عيسى العوام مسيحية، وهذا غير صحيح البتة، لكنه جاء في إطار استمالة المجتمع القبطي آنذاك وإرضاؤه، وفي هذا جهل مركب لأن العوام بالفيلم أرثوذكسي ولويزا التي أحبها كاثوليكية، والأرثوذكس كانوا وما زالوا يرون أن الكاثوليك خارجون على العقيدة المسيحية وبالتالي هذا ارتباط محكوم عليه بالفشل، لكن صُنّاع الفيلم جعلوه أمرا طبيعيا انتهى عليه الفيلم. أما المشهد الخاطئ فهو مشهد مبارزة صلاح الدين (أحمد مظهر) مع رينولد دو شاتيون الشهير عربيا بأرناط (أحمد لوكسر). وهذه المبارزة لا يذكرها أي مصدر تاريخي، بل أن جزاء أرناط المستحق كان القتل الفوري لأنه مجرم وقاطع طريق وخارج حتى على أوامر الملك الصليبي بالدوين الذي مات قبل حطين. ولا بد أن أحمد لوكسر بوسامته وشياكته المعتادة نبّه المخرج إلى أن المبارزة مع أحمد مظهر غير مجدية (يا جماعة دا عسكري من سلاح الفرسان وأنا حيا الله موظف غلبان في مصلحة الموانئ، دا ممكن تاخذه الجلالة وينفعل بالدور ويقطع رقبتي😁) فهل يعود شاهين عن غيّه، لا طبعا (تعمل المشهد يا لوكسر لا كسر لك دماغك😂). والحق أن أرناط عالجه صلاح الدين بضربة مباغتة شقت رأسه إلى نصفين، مع العلم أن صلاح الدين يعرج في إحدى قدميه حسب ما تذكر مصادر تاريخية. ولدينا كذلك مشهد تسلل صلاح الدين متخفيا لعلاج رتشارد قلب الأسد، وهذه ألطف كذبة في الفيلم. وكذلك تأليف شخصية فيرجينيا (ليلى فوزي) تعد من الشطحات الدرامية الفاتنة، لكن شاهين “مسّخها قوي” بأن جعلها هي من تألّب زعماء أوروبا على الزحف نحو الشام (هم مش ناقصين تأليب من حد خالص😊). إذن كل أخطاء فيلم يوسف شاهين -ما عدا الكذب حول مسألة والي عكا- مفهومة ولعلها جاءت لأغراض درامية قد نرفضها أو نتقبلها على مضض، لكنها على أي حال تدخل في إطار المعقول حسب تصورات التوظيف السينما.

نأتي الآن للأستاذ ريدلي سكوت الذي دخل علينا بهذا الموضوع نفسه عبر فيلمه الذي اشتهر بعنوان “مملكة السماء” Kingdom of Heaven. لكن قبل الخوض في ذلك، نشير إلى أن سكوت اشتهر بصنع أفلام الخيال العلمي وأهمها “الوحش الغريب” Alien الذي نجح نجاحا كاسحا بدءا من سنة 1979 واستمرت أجزاؤه الغريبة والدموية حتى اليوم، ثم فيلمه الخيالي العلمي Blade Runner سنة 1982 الذي حقق نجاحا فنيا وجماهيريا على حد السواء. وليس لسكوت نصيب في صنف الأفلام الملحمية التاريخية سوى فيلمه “فتح الفردوس” 1492: Conquest of Paradise الذي يتحدث عن كرستوفر كولمبوس واكتشافه الأرض الجديدة، وقد فشل الفيلم فشلا ذريعا من الناحية الجماهيرية والفنية على حد السواء بالنظر إلى تكاليفه الباهظة. لكن مع حلول الألفية الجديدة أقدم سكوت على إعادة طرح فكرة فيلم “سقوط الإمبراطورية الرومانية” إنتاج سنة 1964 على شكل جديد وذلك في فيلمه “المصارع” Gladiator بأسلوب ملحمي وإن كان “فانتازياً”. إلا أن سكوت فوجئ بنجاح غير منتظر للفيلم، ويبدو أن هذا النجاح قد أغراه للدخول في مسار صلاح الدين. على أن من الواضح أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، 2001 قد أثرت على أذهان كثير من الغربيين ومنهم بلا شك ريدلي سكوت، ولا غرو أنه فكّر بقصة فيلمه “مملكة السماء” نتيجة لذلك، وهنا تبدأ ورطة سكوت مع صلاح الدين.

قلنا إنه لا بأس من عمل بعض الإضافات على الحدث التاريخي لغرض درامي، على ألا يكون ذلك على حساب السياق التاريخي وصحته. لكن فيلم ريدلي سكوت وقع في مغالطة قاتلة في صميم العمل تجعل من هفوات يوسف شاهين شيئا لا يذكر أمام غلطة سكوت المقصودة والمتعمدة. لقد افتعل هذا المخرج البريطاني موقفا بطوليا غير موجود على الإطلاق وألبسه على شخصية لا تستحق البطولة ولا الشهامة. شخصية باليان أمير إبلان ذهبت مع عديد من الشخصيات الصليبية مثل الملك “غي لوزينيان” والكونت ريموند الثالث أمير طرابلس بالإضافة إلى المجرم الكبير رينولد دو شاتيان، هؤلاء كلهم اجتمعوا في معركة حطين، ويظهر أن باليان فر هاربا من المعركة ونجا بجلده، لكنه اضطر للعودة إلى القدس لوجود عائلته فيها، فوجد جيش المسلمين يحاصرونها (وهذا يكذّب أن صلاح الدين فتحها صلحا)، فجاء إلى صلاح الدين واستأذن منه الدخول لأهله في المدينة، فوافق السلطان بشرط أن يقسم على الإنجيل ألا يرفع السلاح عند دخولها، فما إن دخلها قابله المطران الذي حرضه على نكث عهده “لأن القسم لمسلم غير شرعي” حسب زعمه، فقاوم باليان المخذول عبثا. غير أن سكوت تصور باليان كبطل يدافع عن أطفال القدس وشيوخها ونسائها ولم يذهب إلى حطين برفقة قادة الجيش الصليبي وأمرائه، (فيا سلام، حرّك إحساسنا سكوت وشعرنا بمعنى البطولة الحقيقي🤥) وهذه كلها كذبة كبرى بنى عليها هذا المخرج فكرته الخيالية والمزورة، ولاحظ معي أنه أدمن تحريف التاريخ كما في فيلمه السابق Gladiator، لكن ثمة فرق في التحريف في تاريخ روماني غير ثابت عن التزوير في تاريخ معلوم ومثبت بالمصادر. ومن ثم، يمكن تصنيف فيلم “مملكة السماء” ضمن الخيال الفانتازي، أو في أحسن الأحوال “فانتازيا التاريخ”، لا فيلما تاريخيا البتة.

وعلى ذلك، يعد فيلم يوسف شاهين “الناصر صلاح الدين”، رغم هفواته الكبيرة، أهون وأرحم بكثير من فيلم “مملكة السماء”، رغم تصويره الفني الراقي، نظرا لأنه انبنى على كذبة كبرى خدع بها المخرج كثيرا من الجمهور الذي قد يتصور عامتهم أن أحداث الفيلم وصمود باليان وبطولاته صحيحة تاريخيا، في حين أن هذا كله إفك مبين.ننهي حديثنا بوقوعي على مقال ليوسف زيدان كتبه قبل 11 سنة بجريدة المصري اليوم يوهم فيه القارئ أن فيلم “مملكة السماء” أقرب إلى شخصية صلاح الدين، وهذا مجرد كلام يقوله على عواهنه أستاذ الفلسفة وكاتب الروايات الذي أعرب مرارا عن أن صلاح الدين ليس على شيء، بل هو مجرد “خائن للسلطان نور الدين زنكي”.أعتقد أن ورطة صلاح الدين أوقعت في دهاليزها كلاً من سكوت وزيدان، ومن قبلهما شاهين.

أضف تعليق