إمبريالية التمثيل السياسي في قراءة التاريخ
مقابلة رايموند لوتا مع هوارد زِن
نُشرت في 20/ ديسمبر/1998 في موقع هوارد زِن الإليكتروني
مائة عام من الامبراطورية الأمريكية 1898 – 1998
والآمال الراديكالية للمستقبل
أجرى المقابلة رايموند لوتا
ترجمة وتحرير: أمير صالح
مراجعة: فيصل كريم الظفيري
========================================================
يُعدّ هوارد زِن أحد أشهر الأكاديمين الراديكاليين في أمريكا. تتضمن كتبه المتعددة مجموعة من المقالات مثل “سياسات التاريخ” و”ذاكرة سياسية” و”لا تقدر أن تكون محايداً على متن قطار يتحرك” و”مقالات أنطولوجية”[i] نشرت في الصحف والدوريات المختلفة على مر عقود، زِن ريدر، وكتابه الأشهر تاريخ شعب الولايات المتحدة.
زِن ناشط راديكالي ومعادي للإمبريالية. في سنة 1960، عمل مع اللجنة التنسيقية الطلابية المناهضة للعنف[ii] في الجنوب، وكان رمزاً بارزاً في الحركة المعارضة لحرب فيتنام. وصفه أليس ووكر، أحد طلابه السابقين، “بمحب الشعب المثير للمتاعب”. يواصل زِن تعبيره المعادي عن جرائم الإمبريالية الأمريكية هنا (في أمريكا) وخارجها.
هوارد زِن بروفيسور فخري للعلوم السياسية في جامعة بوسطن.
في 24 نوفمبر/تشرين الثاني 1998، حاور الاقتصادي والسياسي “الماوي” رايموند لوتا هوارد زِن حول مسألة مائة عام من الإمبراطورية الأمريكية وآفاق المستقبل الراديكالية. وهذا نص الحوار.
رايموند لوتا: من المثير جداً التحدث اليك هوارد، وأود أن أشكرك للمشاركة بهذه المقابلة.
هوارد زِن: حسناً، أنا سعيد لفعل ذلك
لوتا: ألفتَ كتباً عديدة أثّرت على كثيرٍ من الطلبة والناشطين والمثقفين . لذا أظن أنه بإمكاننا البدء بمعرفة كيف أصبحتَ مؤرخاً وكيف ترى دور المؤرخ؟
زِن: دخلتُ مجال التاريخ لا لكي أصبح مؤرخاً أو باحثاً أو أكاديمياً، ولا لأكتب مقالات بحثية لمجلات بحثية، ولا لكي أذهب إلى مؤتمرات أكاديمية وأقدم أوراقاً لزملاء من المؤرخين الذين يشعرون بالملل. لقد أصبحت مؤرخاً لأنني أصبحت بالفعل ناشطاً سياسياً في عمر الثامنة عشرة.
هوارد زن أثناء خدمته في الجيش الأمريكي في الحرب العالمية الثانية
عملتُ في حوض لبناء السفن وقمتُ على تنظيم العمال الشباب هناك. ثم ما لبثت أن تلقيت أفكارًا راديكالية. كنت أقرأ لماركس وأبتون سنكلير وجاك لندن وقرأت عناقيد الغضب. لذا كنت شاباً واعياً سياسياً يعمل في حوض بناء السفن. كنت هناك لمدة ثلاث سنوات، انخرطتُ بعدها في القوات الجوية. لقد عملت في قاذفات القنابل في سلاح الجو الأمريكي، وبعدها مارست عددا من المهن. كل هذه التأثيرات السابقة، إضافة لتحدري من أسرة من الطبقة العاملة، نشأتي- لدي فصل في مذكراتي يدعى ” نمو الوعي الطبقي”، وأعتقد نعم أنني قد نميت وعيي الطبقي، جملة لا تستخدم عادة في الولايات المتحدة… وعيي الطبقي …خبرتي في الحرب [الحرب العالمية الثانية]، ردود أفعالي المختلفة تجاه الحرب، التي تسمى “بالحرب الأسمى”، “الحرب الخيّرة”… العيش مع زوجتي في حي للطبقة العاملة، تربية طفلين، مروري بأوقات عصيبة… الذهاب للمدرسة مستفيداً من قانون رعاية قدامى محاربي الحرب العالمية الثانية أثناء عملي في مستودع… انتسابي لعدد من الاتحادات من وقت لآخر، اهتمامي بالحركة العمالية، القراءة عن الصراعات العمالية.
لذا، عندما بدأت بدراسة التاريخ وبدأت بالتفكير في أن أصبح أستاذاً ومارست كتابة التاريخ، أدركت مسبقاً بأنني لن أصبح أستاذاً محايداً. ببساطة لم أصلح لأن أكون أكاديمياً.
لوتا: كوّنتَ أفكارًا واضحة المعالم عن المؤرخ الذي أردتَ أن تصبح عليه.
زِن: أردت أن تكون كتابتي عن التاريخ وتدريسي له جزءاً من الصراع الاجتماعي. أردت أن أكون جزءاً من التاريخ لا مدونًا ومدرساً للتاريخ وحسب. دائما ما شكّل هذا الموقف تجاه التاريخ – التاريخ نفسه كتمثيل سياسي- أساساً لكتاباتي وتدريسي. علمت منذ اللحظة الأولى التي دخلت فيها قاعة التدريس أنني لن أكون مثل بقية أولئك الأساتذة الذين يرغب الطلاب في معرفة مواقفهم في نهاية الفصل الدراسي أو السنة الدراسية، إذ سأحيطهم علمًا به منذ اللحظة الأولى! كان هذا مسلكي طوال مسيرتي في التدريس وما زال.
لوتا: ما هي نظرتك حول كيفية كسر الحواجز بين عملك الأكاديمي في الجامعة وما يحدث في المجتمع الأكبر؟
زِن: أنظر لها من جانبين، الأول جلب العالم إلى قاعة الدراسة، والثاني إدخال القضايا الراهنة إلى قاعة الدرس. أياً كان المقرر الذي أدرّسه- سواء أكان نظرية سياسية أم القانون الدستوري- فقد كنا نربط بين ما هو موجود في الكتب الدراسية وما حدث في التاريخ وما حدث في الماضي وما يحدث في عالمنا اليوم أثناء تدريسه. لذا كانت القاعة نفسها مكان التقاء للعالم الخارجي وعالم الجامعة.
في الوقت نفسه لم أستطع قولبة حياتي على النمط الأكاديمي. توجب عليّ أن اتداخل مع العالم الخارجي (خارج الجامعة). لأنني إن لم أتداخل مع العالم الخارجي فسأوصل رسالة لطلبتي مفادها[ضاحكاً]: من العظيم أن نتحدث عن كل هذه الأشياء في القاعة، إنه شيء رائع، ولكن ليس عليكم فعل أي شيء بخصوص ذلك. أردت أن تنقل أفعالي لتلاميذي ما هو مهم في الحياة.
لذا خلال أول عمل لي بالتدريس في كلية سبيلمان بأتلانتا في ولاية جورجيا، حيث درّست لسبع سنوات أثناء حركة الحقوق المدنية، سرعان ما انخرطت في الحركة. ورأيت دوري بوصفي أستاذاً أن أعلّم من خلال نشاطي خارج الفصل ما كنت أقول داخله.
لوتا: يُعد ربما كتابك “تاريخ شعب الولايات المتحدة” عملك الأفضل على الإطلاق، فكثير ممن قرأ الكتاب تفتحت مداركهم على حقائق غائبة، ليس فقط من خلال الاستنتاج الذي تتوصل إليه بل من منهجك بتناول التاريخ. هل يمكنك توضيح ما تعنيه “بتاريخ الشعب”؟
زِن: أظن أن ما عنيته “بتاريخ الشعب” شيئان. الأول، محتوى التاريخ الذي يختلف عن التاريخ التقليدي والذي أحكي فيه حياة الأشخاص الذين تجاهلهم عمومًا التاريخ التقليدي. على سبيل المثال، ما يسمى “بالمعجزة الاقتصادية” العظيمة للولايات المتحدة ما بين الحرب الأهلية والحرب العالمية الأولى، عندما أصبحت الولايات المتحدة أمة ذات قوة صناعية مهولة، عادة ما تقدم تلك الفترة على أنها عظيمة ورائعة وتجربة مظفرة.
لكن المستثنى والمستبعد من هذه الصنوف التقليدية من التاريخ- كما كان جلياً لي في دراساتي الجامعية وما قبلها- هو تجربة الطبقة العمّالية. من كان هؤلاء العاملين في مصافي روكفيلر؟ من هم الأشخاص الذين عملوا في خط السكك الحديدية العابرة للقارة؟ من كان أولئك المهاجرون الصينيون والإيرلنديون العاملون في السكك الحديدية. والفتيات العاملات في معامل الأقمشة في نيو اينجلاند اللواتي يذهبن للعمل في عمر الثانية عشر، ويقضين نحبهن في عمر الخامسة والعشرين- كل هؤلاء كانوا مغيبين. أردت استحضارهم.
الأمر الآخر ببساطة هو وجهة نظر، ببساطة النظر للتاريخ من وجهة نظر مختلفة، ليس فقط وجهة نظر مختلفة بالمعنى الأكاديمي، ولكن تحديداً النظر لأحداث التاريخ الأمريكي من خلال وجهة نظر أولئك الذين لم يملكوا صوتاً، الناس الذين تعرضوا للقهر، والذين عانوا دون أن يلاحظهم أحد، لذا قررت أن أروي قصة كولومبوس من جانب الهنود الذين التقاهم.
لوتا: التي هي ليست القصة المعتمدة.
زِن: كما أردتُ رواية الحرب المكسيكية من جانب الجنود الأمريكيين الذين لم يعلموا ما الذي كانوا يفعلونه، أو إلى أين هم ذاهبون -معظمهم كانوا مهاجرين يائسين من أجل قليل من المال والاهتمام- وليس فقط رواية الأحداث من الجانب العسكري، وهو الأمر الذي أردته مع كل حرب، بل أيضاً من جانب الأعداء المزعومين، أن أرى الحرب المكسيكية من جانب المكسيكيين، كم كان “لطيفاً” لهم أن تقتطع الولايات المتحدة نصف دولتهم نتيجة لتلك الحرب وأن ترتكب الفظائع خلالها.
أردتُ سرد التاريخ الأمريكي من جانب المرأة، والسود و الهنود الحمر والعمال والمتشددين والمحتجين.
ما أن اتخذت هذا القرار، حتى بات من الواضح بالنسبة إليّ إنه سيكون نوعاً مختلفاً من التاريخ، ولا يراودني شك بأن مفاجأتي هذه – وقطعأ مفاجأة الناشر أيضاً- كانت السبب في وصوله إلى أناسٍ كثيرين، إذ أن من قرأه صُعق بغتةً بحقيقة روايتي للتاريخ من وجهة نظر مختلفة.
لوتا: يُعقد هذا العام مؤتمرات وأنشطة احتجاجية كثيرة معادية للإمبريالية حول العالم، خاصة في بورتوريكو، كوبا، والفلبين وأحداث أخرى مختلفة في الذكرى المئوية للمقاومة الشعبية للاستعمار الإسباني ومقاومة الهيمنة الأمريكية التي أعقبت الحرب الإسبانية الأمريكية في 1898. لكن هنا في الولايات المتحدة لا يوجد سوى وعي ونقاشات قليلة عن الحرب الإسبانية الأمريكية. هلا بيّنت لنا ما يميز الحرب الاسبانية الأمريكية وما الذي تعتقد بأن على الناس أن تفهمه منها؟
زِن: بينما لم تكن بداية الإمبريالية الأمريكية- وأحياناً يشار إليها في الكتب الدراسية إنها كانت فترة قصيرة من الامبريالية الأمريكية لسنوات محدودة- مثّلت الحرب الإسبانية الأمريكية ذروة التمدد الاستعماري عبر القارة وغزو أمريكا اللاتينية والشرق الأقصى أيضاً.
ثيودور روزفلت والاستيلاء على تل سان خوان سنة 1898
أعتقد أن ما ميز حرب 1898 أنها ربما كانت مظهر الدخول الأكثر إبرازًا لقوة الولايات المتحدة العسكرية والاقتصادية على المسرح العالمي.
لوتا: وما مدى أصداء ذلك على المستقبل!
زِن: كانت الحرب الاسبانية الامريكية مبشرةً بما وصفه هنري لوس لاحقاً “بالقرن الأمريكي”، والذي عنى في حقيقته قرناً من الهيمنة الامريكية. كانت حرب كوبا في ذاتها مبشرة لكثير مما ستفعله الولايات المتحدة في أماكن أخرى من العالم. وما أعنيه بذلك التظاهر بتحرير جزء من العالم من الدولة التي تحتله واستبدال هذه الدولة المحتلة بتلك الدولة المحتلة- كما تعلم، إخراج الاسبان، ولكن في الوقت ذاته التأكد من عدم تمكن حركة وطنية من حكم كوبا.
وهذا قد حدث مراراً وتكراراً. كانت الولايات المتحدة تبدو كمن يريد حماية الفيتناميين الجنوبيين من هجوم الفيتناميين الشماليين واضطهادهم، لكن بالطبع كانت الولايات المتحدة تريد استخلاص فيتنام لنفسها في الحقيقة. في الشرق الأوسط- لنأخذ مثالاً حديثاً جداً- ادعت الولايات المتحدة إنها ذاهبة لحرب العراق لأن فؤادها قد فُطِر لمصير الكويتيين في حين كان الهدف في الحقيقة ليس الدفاع عن حرية الكويتيين بل ضمان استمرار الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط الغنية بالنفط.
إذاً فقد كانت الحرب الإسبانية الأمريكية مؤشراً لما يمكن للولايات المتحدة أن تفعله.
مثال آخر على كونها تبشيراً بالحروب هو قياسنا لنجاح الحرب الإسبانية الأمريكية بحقيقة قلة الخسائر الأمريكية. كما وصفوها “بحرب ممتازة صغيرة”… ليس هنالك خسائر فادحة في صفوف الأمريكيين. بالطبع فهم لم يحصوا الآلاف الذين ماتوا نتيجةً للتسممم باللحم الفاسد الذي زودت به شركات جشعة الجيش. أما السؤال بالنسبة للطرف الآخر، كم من الناس قضى نحبه قد تجاهلوه تماماً.

ملصق دعائي عن التدخل في كوبا اثناء الحرب الامريكية الاسبانية
لوتا: استخدمت وزارة الخارجية الأمريكية تلك العبارة “حرب ممتازة صغيرة”. من الناحية الأخرى وصفتَ من جانبك حملة الولايات المتحدة في الفلبين خلال الحرب الاسبانية الأمريكية بأنها “حرب إبادة بشعة”.
زِن: تماماً. من المثير حقاً ما يتعلمه التلاميذ في كتب التاريخ. إذ أتذكر أن الحرب الاسبانية الأمريكية كانت حدثاً مهما في كتب التاريخ. لقد كانت حدثاً مجيداً تجسد في الأعمال البطولية لثيودور روزفلت والاستيلاء على تل سان خوان برفقة فوج متطوعي “الفرسان الأشداء”. ولكن نظرياً لم يحدث اهتمام حقيقي بنتائج الحرب في الفلبين، التي لم تكن “حرباً صغيرة ممتازة” على الإطلاق.
لقد كانت حرباً طويلة استمرت ثماني سنوات تضمنت ارتكاب الجيش الأمريكي الفظائع بحق الفلبينيين. كما أنها تمهيد بطريقة أو بأخرى لما سيحدث لاحقاً. كان تمهيدا من ناحية افتعال وجود الجيش الأمريكي لحادثة في الفلبين، أدت لاندلاع الحرب وتدمير جزء كبير من الفلبين وتُوّج بارتكاب المجازر والانتهاكات.
سبق مذبحة ماي لاي – وهي المذبحة الجماعية لمدنيي تلك القرية الفيتنامية على يد القوات الأمريكية- مذبحة أخرى في الفلبين في العام 1906. هاجم الجيش الأمريكي مجموعة مكونة من 600 فرد من قومية المورو في جنوب الفلبين – رجالاً ونساءً وأطفالاً – كانوا يعيشون حياة بدائية، ولم يكن لديهم أية أسلحة حديثة. هاجمهم الجيش الأمريكي باستخدام أسلحة حديثة ومسحهم من على وجه الأرض. كل الستمائة، رجالاً ونساءً وأطفالاً. وأرسل ثيودور روزفلت برقية للقائد المسؤول مهنئاً إياه بالنصر العظيم. وقد احتجّ آنذاك مارك توين على هذا بعنف.
كانت الحرب في الفلبين مقدمةً لما سيحدث في حرب فيتنام من نواحٍ عديدة ، لبشاعة الحرب.
لوتا: ربما بإمكانك قول المزيد عن معارضة الحرب الأمريكية الإسبانية والخلاف حولها داخل الولايات المتحدة إذ أن ثمة قدْرٌ من الجهل بهذا أيضاً.
زِن: برزت حركة معادية للإمبريالية داخل الولايات المتحدة، مع أن النجاح لم يحالفها بما يكفي لمنع الولايات المتحدة من فعل ما تفعله.
ساندت القيادة المحافظة الممثلة للاتحادات التجارية الحرب. لكن من الناحية الأخرى، عارضت الحرب الاتحادات العمالية والصحافية العمالية وقالت بأن العمال عليهم أن يموتوا في الحرب من أجل أرباح الشركات الكبرى. هذا كان على صعيد الطبقة العاملة التي كانت تبدي اعتراضها.

وليام جيمس
أما على صعيد المثقفين، فكانت هناك منظمة رابطة معاداة الإمبريالية، من بين أعضائها أشخاص مثل ويليام جيمس ومثقفين آخرين اعترضوا على نشاطات الولايات المتحدة في الفلبين.
لوتا: كتبتَ عن وقوع مقاومة داخل الجيش الأمريكي خلال الحرب الاسبانية الأمريكية.
زِن: حدث نوع من المعارضة داخل الجيش. فقد كان هناك جنود رفضوا القتال وآخرون فرّوا من الجيش في الفلبين. كما أن بعض الفارين انضموا لجانب الثوار. لقد كتب بعض الجنود السود إلى الوطن للصحف الأمريكية الأفريقية معبرين عن مدى تقززهم من العنصرية داخل الجيش وعن حقيقة كونهم مجبرين على محاربة الملونين وقتلهم.
لوتا: ينظر بعض الناس للعالم اليوم ولدور الولايات المتحدة فيه، ويقولون أنه لا يمكنهم وصف الولايات المتحدة فعلاً بالقوة الإمبريالية، وبأن هذه الفكرة عن الإمبراطورية عفا عليها الزمن. لكنك قلت بأن الولايات المتحدة قد أتت بنوع جديد من بناء الإمبراطوريات على المسرح العالمي. فأتساءل هنا إن كان بإمكانك مناقشة ما تعتقد أنها الملامح المميزة لهذه الإمبريالية الأمريكية.
زِن: أعتقد أن السبب وراء قول الناس ذلك هو اختلاف نوعي بعض الشيء في أن الولايات المتحدة لم تقم ببناء إمبراطورية على شاكلة الإمبراطورية البريطانية التي كانت تتحكم مباشرة بمستعمراتها واحتلتها كلياً.
في الحقيقة، تُعدّ كوبا مثالاً جيدًا لذلك، فرسمياً وتقنياً لم تجعل الولايات المتحدة من كوبا مستعمرة، إذ ظلت كوبا حرة. لكن الشركات الأمريكية، السكك الحديدية، آل فانديربلت، شركة الفواكه المتحدة، والمصارف دخلوا كوبا وهيمنوا على اقتصادها. وبينما لم تبقَ الولايات المتحدة تسلك مسلك المستعمر الصريح، تدخلت عسكرياً في كوبا كلما رأت ذلك ملائماً لضمان وجود الحكومة المناسبة للمصالح الإقتصادية الأمريكية، وهكذا فعلت مراراً وتكراراً.
كما أعتقد أن عدم تقليد الأسلوب البريطاني بل اتباع الأسلوب الأمريكي الجديد بترك نوع من الاستقلال الشكلي لإحدى حكومات العالم الثالث يُعدّ سمةً مميزة بحد ذاتها، لكن في الوقت ذاته ضمان السيطرة الإقتصادية والاحتفاظ بخيار التدخل العسكري لحظة تهديد تلك السيطرة الإقتصادية- أصبح سمةً مألوفة.
لوتا: لعلكَ تضرب أمثلة لنا على ذلك.
زِن: هذا تحديداً ما فعلته الولايات المتحدة في بدايات القرن العشرين، بعد الحرب الإسبانية – الأمريكية مراراً وتكراراً في الكاريبي، وفي غواتيمالا، والهندوراس، وفي نيكاراغوا. الإطاحة بالحكومة في نيكاراغوا عندما هددت الحكومة الليبرالية السيطرة الأمريكية، واحتلال هاييتي وجمهورية الدومينيكان عندما بدا أن تلك الحكومات ستناهض الولايات المتحدة ولن تجاريها في لعبتها- لعبة الاحتلال الطويل لتلك الدولتين.

سلفادور أليندي
وبالطبع، في وقتنا الحالي، وفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أفكر بتشيلي. لن يشير أحد لتشيلي بكونها مستعمرة أمريكية. لكن شركات الولايات المتحدة – أناكوندا للنحاس، آي تي تي، امتلكت مصالح اقتصادية هامة في تشيلي. وعندما بدأت حركة يسارية وماركسية معتدلة ظلوا يشيرون إليها بالحكومة الماركسية، وهي لم تكن كذلك البتة، إذ يمكن وصف حكومة أليندي [المنتخبة في 1970] أنها تميل إلى حكومة يسار “الصفقة الجديدة”[iii]؛ ولكنها حكومة أمكنها تهديد مصالح آي تي تي وأناكوندا للنحاس. في البداية سعت الولايات المتحدة جاهدةً لئلا تكون نتيجة الانتخابات في صالح أليندي، وقد فشلوا في ذلك. لقد كان خيار الشعب الشيلي مغايراً لذلك. من ثم عملت الولايات المتحدة على خيارها التالي ألا وهو الإنقلاب العسكري.
في العام 1975 أظهرت الوثائق الحكومية الأمريكية التي قُدّمت إلى لجنة تشيرش[iv] للتحقيق حول وكالة الاستخبارات المركزية [في مجلس الشيوخ الأمريكي] بوضوحٍ جلي دور هنري كيسنجر والحكومة الأمريكية في تأسيس حكم بينوشيه [الجنرال التشيلي الذي قاد الانقلاب الفاشي في العام 1973] معيدين بذلك مصالح الشركات الكبرى في تشيلي.
لك أن ترى هذا النمط يتكرر مراراً وتكراراً في مناطق مختلفة من العالم: الحفاظ على المصالح الاقتصادية وتعضيد حكومات ديكتاتورية مستبدة، أو تنصيب حكومات تجاري الولايات المتحدة في لعبتها.

جاكوبو آربنز
مثال آخر على ذلك يتمثل بالإطاحة بحكومة أربنز في العام 1954 بغواتيمالا. إذ عملت شركة الفواكه المتحدة بوضوحٍ جلي مع وكالة الاستخبارات المركزية للإطاحة بحكومة منتخبة ديمقراطياً تجرأت على مصادرة أراضي تلك الشركة. كلمة المصادرة هنا لا تصلح حتى للوصف، لأنهم لم يكونوا ليفعلوا ما تفعله الحكومات الثورية، ألا وهو مصادرة أراضي شركة الفواكه المتحدة من دون تعويض، إذ كانوا سيعوضون الشركة. لكن ذلك لم يكن مقبولاً، ولذا عملت وكالة الاستخبارات المركزية والحكومة الأمريكية على الإطاحة بالحكومة. وذلك كان النمط المتبع في أماكن أخرى كثيرة في العالم.
إضافة إلى هذا النوع من الإمبريالية الجديدة، وهذا الاستعمار الجديد، ظهر نوع من الإمبريالية الثقافية تمثلت في وسائل الإعلام الأمريكية والتلفاز الأمريكي والصحافة الأمريكية وبالطبع المنتجات الأمريكية، ظهرت في أصقاع الأرض الأربعة وتسببت في أحيانٍ كثيرة في تدمير الثقافات الأصلية في أنحاء مختلفة من العالم… جالبة ما يسمى “بالحضارة” للأشخاص الذين عدوا “متخلفين”، وهو ما يعني مجيء الفساد.
لوتا: تعدّ المنظمات الدولية أو متعددة الأطراف، كالأمم المتحدة والبنك الدولي، طريقة أخرى تعمل بها الإمبريالية الأمريكية، والتي تخفي المصالح الإمبريالية الحقيقية للولايات المتحدة.
زِن: أظن بأن عمليات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تعد مثالاً جيداً على الإمبريالية الجديدة. إذ أنه تحت غطاء المنظمات الدولية التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، كاستخدام الأمم المتحدة غطاءً للعمليات العسكرية في كوريا أو العراق، ، تعمل الولايات المتحدة فعلياً على استنزاف بلدان العالم الثالث عن طريق خلق ديون هائلة وإجبارها على دفع ما يقارب في أحيانٍ كثيرة نصف ميزانيتها القومية فوائد لهذه الديون، ويطالبون الحكومات مقابل هذه الديون بالتخلي عن الخدمات الاجتماعية التي تقدمها لمواطنيها. يمكنك القول بأنهم يشكلون في تلك الدول صورة تعكس ما يجري في الولايات المتحدة. حيث يتم تحت ادعاء موازِنة الميزانية التخلي عن الخدمات الإجتماعية مقابل توفير الأموال للتسلح.
لذا يمكننا القول بأن صندوق النقد والبنك الدوليين يلعبان دوراً مشيناً في العالم. أظن أنهما بلا شك جزء مما يمكن أن أسميه الاستعمار الجديد.
لوتا: وهنالك شبكة كاملة من القواعد العسكرية الأمريكية ومناطق التمركز حول العالم
زِن: نعم بالتأكيد. فكّر في عدد القواعد العسكرية التي نمتلكها في اليابان، وعدد القواعد العسكرية التي نمتلكها في كوريا. عندما احتج مواطنو الفليبين ضد القواعد العسكرية هناك، أجبرت الولايات المتحدة على الانسحاب، بالطبع ليس كلياً، وعندها صار الحفاظ على القواعد العسكرية في كوريا واليابان أكثر أهمية للولايات المتحدة. كما لا نزال نحتفظ بعدد كبير من القوات في ألمانيا مع أنه لم يعد هنالك لا ألمانيا شرقية ولا غربية، نرفض التخلي عن قاعدتنا في كوبا، قاعدة غوانتانامو.
إذن فهي شبكة معقدة وممتدة جداً من القوة العسكرية والاقتصادية الأمريكية.
لوتا: ثمة من يقول إنه، تبعاً للظروف الراهنة، يمكن للولايات المتحدة استخدام قوتها العسكرية بطريقة إيجابية أو إنسانية في بلدان مثل هاييتي أو الصومال أو البوسنة. ما القول الذي توجهه لمن يتبنى هذا الرأي؟
زِن: اني متشكك جداً تجاه القوة العسكرية الأمريكية. يمكنني الإقرار بوجود حالات يصير معها التدخل إلى جانب شعب مضطهد أمراً مفيداً عندما لا يكون هنالك حلول أخرى. لكن عندما تتدخل حكومة سجلها كسجل الولايات المتحدة ومع ما نعرفه عن نوايا الولايات المتحدة، لا بد من أن يصير المرء مرتاباً جداً.
في الحقيقة رأينا في الصومال مثالاً على ذلك. ما بدا على أنه بداية تدخل إنساني سرعان ما تحول إلى تدخل بشع وعنيف.
لوتا: لقد تكلمنا كثيراً عن ظهور الولايات المتحدة على المسرح العالمي مع الحرب الأمريكية الإسبانية. لكن ها قد تجاوزِنا 100 سنة، ونحن على مشارف القرن الحادي والعشرين. هل أنت متفائل بشأن آفاق التغيير والتحولات في العالم والولايات المتحدة نفسها؟
زِن: أريد أن أكون متفائلا بذكاء، لا متفائلاً بحماقة.
لا أريد أن أكون متفائلاً بحماقة بمعنى الاعتقاد بتوقف التاريخ عند نقطة معينة – والتي ما تزال موجودة في أذهان البعض – إذ اعتاد اليساريون القول “إن الثورة العالمية حتمية.” لم أحب يوماً مفهوم الحتمية هنا، ومفهوم الجبرية، لأن مجرد التعبير للآخرين عن ذلك – بالنسبة إليّ- يباعد بينك وبينهم، لأنهم يتطلعون نحو العالم من حولنا فيتعذّر عليهم التفاؤل في وجه هذا العالم. ولذك أرى أن من الواجب وجود نوع من الإقرار بالعراقيل الهائلة التي تواجهها أية حركة.
في الوقت ذاته، أؤمن بوجود فرص كبيرة أمامنا، لكن ذلك يعتمد على ما نفعل. ويعود عدم استخدامي مصطلحات مثل حتمية التطور، حتمية التغيير، حتمية التغيير الجذري لأنني أعتقد أن ما يحدث يعتمد على تفاؤلنا أو سلبيتنا. لكنني أظن من المهم التمسك بإمكانية التغيير والاحتفاظ برؤية لمجتمع مختلف في العالم وفي الولايات المتحدة؛ والاحتفاظ بها ليس كمجرد حلمٍ شاعري، بل كإمكانية حقيقية. من المهم الاحتفاظ بها لأن ذلك من شأنه أن يحفزِنا.
لوتا: إنك تتحدث كناشط وكمؤرخ في الآن ذاته.
زِن: أظن أنه يمكن للتاريخ أن يكون مفيداً من خلال الإشارة إلى أن الناس عاشوا في فترات بشعة للغاية وبدت الأحوال فيها جامدة ومن ثم باغتتهم المفاجأة. دوماً ما تأخذنا المفاجآت، فنتساءل عن السبب عندما تقع. والسبب يكمن في أننا جميعاً لم نرَ ما تحت السطح، ولم نؤمن بالشعب.
أؤمن بشدة في الأناس العاديين، بقدر ما يفهمهم السياسيون والإعلام فهماً ضبابياَ. أعتقد بأن للناس وعياً جمعياً فطرياً وحساً فطرياً. وإذا ما ظللنا نلح عليهم بالحقيقة – أظن أنه لا شيء أكثر ثورية من الصدح بالحقيقة – فإذا ما ظللنا نصدح بالحقيقة ونلح بها فستجد طريقها وسيستجيب لها الناس.
واجهنا مثل هذا الوضع من قبل، لقد رأيته في هذا البلد. رأينا أوضاعاً بدا أنها ميؤوسٌ منها. كيف سننظم هنري فورد؟ مستحيل. انظر لكل المال الذي يملكه، انظر إلى جحافله.” “كيف سيتغير الوضع في الجنوب؟ هذا غير ممكن؛ فلديهم المال والسلطة، والحكومة الفيدرالية تقف إلى جانبهم.” وتم كل شيء.
أو الحركة المناهضة للحرب: “كيف سنوقف الحرب في فيتنام؟” أتذكر مشاعر الناس التي عبّروا عنها في البدايات عندما نظمنا في متنزه بوسطن مسيرة جماهيريةً أمّها مائة شخص. وسرتَ بنفسكَ في طابور احتجاج وكانت الشرطة المحيطة بالطابور أكثر من المحتجين داخل الطابور أنفسهم.
لكن الحركات تكبر. الحركات الصغيرة تصبح كبيرة إذا ما ثابر الناس. لذا اعتقد بأن التغيير ممكن، بناءً على ما نفعل.

اعتقال زِن في أحد المظاهرات المناهضة لحرب فييتنام في الستينيات
لوتا: ذكرت أهمية التمسك برؤية مختلفة للعالم. ما هي تلك الرؤية بالنسبة إليك؟
زِن: إنها رؤية للعالم لا تهيمن فيها الشركات القوية على الاقتصاد. حين يتحكم بالمؤسسات الإقتصادية العاملون بها. وحين يتمتع العمال بحقوقهم والمستهلكين بالتمثيل في آليات صنع القرار. سيكون عالماً تتجذر فيه الديمقراطية كما في كومونة باريس عام 1871… حيث المشاركة المستمرة، والناس يلتقون من كل مكان، حين لم تتقيّد المشاركة السياسية الشعبية وتنحصر فقط بالتصويت كل عامين أو أربعة للاختيار بين خيارين أحسنهما سيء… إنها نوع من المشاركة الشعبية والجماهيرية واتخاذ القرار على جميع المستويات.

كومونة باريس-نسخة المدونة (من مكتبة الوالد)
يصعب تحقيق مثل ذلك في مجتمعات كبيرة ومعقدة للغاية. لكنني متأكد أنه يمكننا الحصول على ديمقراطية سياسية لا حدود لها وأكثر أخلاقية من تلك التي لدينا اليوم؛ ويجب أن يكون هدفنا هو جعل الظروف التي يعيش فيها الناس حول العالم متساوية، لاستخدام هذه الثروات لتوفير الطعام للناس وللعناية بأطفالهم. يجب أن يضمن كل شخص أساسيات الحياة، وأن يضمن كل شخص مكاناً للعيش والغذاء الكافي والعناية بأطفاله، ويجب أن يضمن كل شخص العناية الصحية دون القلق من الفواتير أو الاستمارات أو التواقيع.
كما يجب علينا تحطيم العوائق الدولية، عالم بلا تأشيرات أو جوازات سفر، حيث يمكن للناس التنقل كما تتنقل الشركات حالياً عبر الحدود. من الواضح أن رؤيةً كهذه يصعب تصورها. لكنني أظن انه دون رؤية كهذه فلن تتمتع بموقف يمكنك من تقييم ما يحدث يومياً.
إن لم تمتلك رؤيةً لعالم يخلو من القيود القومية/الوطنية، فلن تتمتع بموقف يؤهلك لتقييم أموراً محددة تقييماً حقيقياً، مثل هل يجب على الكونغرس تمرير هذا القانون الخاص بالهجرة أو ذاك القانون، هل يجب علينا تقييد الهجرة بهذا القدر أو ذاك. لكن إن كانت لديك رؤية من هذا النوع للعالم الذي تريده، ساعتها سيتضح ما الموقف الذي عليك اتخاذه تجاه الهجرة، والقاضي بأنه يجب على الناس أن يكونوا قادرين على التنقل (بحرية)، ولا يجب أن تكون هنالك تمييزات مثل أجنبي وغريب ومهاجر.
أعتقد أن خلق ظروف تتوزع فيها الموارد بالتساوي وأن ينعم الناس بشعور العيش بكرامة إنما يحدث من خلال اقتلاع التفرقة العرقية والجنسية والجريمة. ليس من الصعوبة بمكان فهم الجريمة العنيفة التي لدينا هنا في الولايات المتحدة عندما نلاحظ طرفي النقيض الغنى والفقر في الولايات المتحدة. إذا ما نظرت للبلدان صاحبة معدلات جريمة أقل بكثير من الولايات المتحدة، فستجدها بلداناً فيها مساواة للثروة أعظم بكثير.
لذا أعتقد أنه من المهم أن يكون لدينا هذا النوع من الرؤى المختلفة للعالم كي يساعدنا على معرفة ما علينا أن نفعله يوماً بعد يوم.
لوتا: لقد كنتَ مثلاً أعلى للمثقفين، أعني بوصفك مثقفاً فاعلاً، وشخصاً خصص معرفته البحثية العميقة لخدمة الحركات الجماهيرية. ماذا تقول للمثقفين عن الكيفية التي يجب أن ينظروا بها لعملهم؟
زِن: أريد أن أقول للمثقفين (ضاحكاً) أليس العالم الأكاديمي مملاً؟ هل كل ما يوجد في الحياة هو الذهاب للمؤتمرات الأكاديمية وكتابة الأوراق العلمية لمجموعة صغيرة من الناس في مجالك ذاته؟ في عملك نفسه؟ في نهاية حياة كهذه ألست في نفس مكان إيفان إيليتش في قصة تولستوي موت إيفان إيليتش حيث يتساءل الرجل الناجح جداً على فراش موته “لماذا أشعر بهذا السوء البالغ”؟
لوتا: إذن ما هي مسؤولية المثقفين؟
زِن: مسئولية المثقفين هي نبذ وهم “الموضوعية” ووهم “المعرفة اللامبالية”. بقولك “معرفة لامبالية” فكأنك تقول إن الجميع مهتمون ما عداي؛ كن فاعلاً. أريد قول شيء آخر: أنت تعرف أنك ستصبح أستاذاً أفضل وأكثر جذباً للاهتمام إذا ما ربطت طلبتك مع ما يحدث في العالم وإذا ما رأى طلبتك أنك مرتبط مع ما يحدث في العالم.
لوتا: ظللنا نتحدث عن بناء وعي ونشاط مناهض للإمبريالية. كيف تنظر للجيل الشاب وكيف ترى ارتباط الجيل الأكبر به؟ كان من المثير أن شخصية مات دايمون في فيلم “غوود ويل هانتينغ” كانت تقتبس من كتاب “تاريخ شعب الولايات المتحدة”؟
زِن: لقد سمعتُ كثيرا من الأشياء، كما سمعت أنت أيضاً بالتأكيد، عن لامبالاة الجيل الأصغر، وعن قلة الوعي الاجتماعي للجيل الأصغر. أظن هذا غالباً جزءاً من إضفاء الشاعرية على جيلنا، الذي يفترض وجود شيء مميز للغاية في جيل الستينات يكاد يكون جينياً، والذي لا يمتلكه هؤلاء الشباب. لم أصدق هذا يوماً.
لقد درستُ طلبة الثمانيات في سنوات ريغان عندما كان يردد الناس “أوه، هذا جيل صامت” ولم يكن طلبتي من الشباب الراديكالي. لقد كانت لدي فصول دراسية يحضرها 400 طالب في كل فصل دراسي، وقد أتوا من مختلف أنحاء الجامعة وبدرجاتٍ مختلفة من الوعي السياسي، من أعلى المستوى وصولاً إلى ما يقارب الصفر. ولقد كان واضحاً لي كلما انخرطنا في في النقاش داخل الفصل تحمس طلبتي لمعرفة ماذا يحدث في العالم ساعة تقديم المعلومات لهم، وكانوا مهتمين عما يحدث في العالم.
أؤمن بشدة بأن الشباب، في كل الأزمان، متفتحين للتفاعل مع العالم: أولاً، إذا ما قُدّمت لهم المعلومات، ثانياً: إذا ما مُنِحوا الفرصة، وإذا ما عُرِضت عليهم حركة اجتماعية معينة، وإذا ما وُجد شيء ما في العالم يمكنهم ربط أنفسهم به.
لوتا: أظن أن ذلك مهم جداً
زِن: يكمن في أعماق “الطموح” الشاب -“الحاجة للتخرج”، “الحاجة لبدء مسار مهني”- أؤمن في أعماق ذلك السطح بوجود شباب يتضورون لفعل شيء مهم وذي شأن.
وإذا ما قدمت للشباب شيئاً يجري الآن ويمسهم… من أن الناس يُضطهدون في هذا الجزء من العالم، وأن وفيات الأطفال السود ضعفي وفيات الأطفال البيض، وأن الأشخاص الذين بلا مأوى يعيشون في ظروف قاسية جداً جداً… عندما تعرض ذلك ومن ثم تعرضه مع الحلول الممكنة… الاقتراحات بأن هنالك طريقة مختلفة للحياة… بأن هنالك مجتمع من نوع مختلف… بأن الثروة المهولة للولايات المتحدة يمكن استخدامها لحل مشاكل الشعب بدل أن تصب في جيوب واحد بالمائة من فاحشي الثراء من المواطنين. عندما يُقدم ذلك للشباب و (يضحك) أعطيهم هواتف المنظمات التي يمكنهم الاتصال بها أو عناوين المنظمات التي يمكنهم الكتابة إليها أجدهم يستجيبون.
لوتا: أنت مفعم بالأمل.
زن: أنا مفعم بالأمل تجاه إمكانية أن يصبح الشباب واعين اجتماعياً أكثر من غيرهم من الناس. أجد في أحيان كثيرة أن اليساريين قد تشرّبوا من تشاؤم اليمينيين. من ناحية يقول اليساريون أن وسائل الإعلام تهيمن على المعلومات، في حين أنهم يقبلون فعلياً ما تقوله تلك الوسائل عن قلة الوعي بالبلد. إذا لم نؤمن بوجود تلك الطاقة في الشباب فلن نفعل شيئاً.
ترجمة وتحرير: أمير صالح
مراجعة: فيصل كريم الظفيري
=========================================
[i] انطولوجيا [i] انطولوجيا معرفية
[ii] اختصار لـ Student Non-Violent Coordinating Committee (SNCC)
[iii] الصفقة الجديدة: مجموعة من البرامج الاقتصادية أطلقت ما بين 1933 و1936 استجابة للكساد الكبير ركزت على إغاثة العاطلين والفقراء وإنعاش الإقتصاد وإصلاح النظام المالي لمنع حدوث الكساد مرة أخرى
[iv] لجنة تشيرش: لجنة تحقيق تشكلت في الكونغرس الأمريكي للتحقيق في الجمع غير القانوني للمعلومات بواسطة CIA,FBI,NSA وذلك بعد فضيحة ووترغيت
شكراً جميلاً يا صديقي.
إعجابLiked by 1 person