هذه ترجمة لختامية كتاب
How to Hide an Empire
A History of the Greater United States
لمؤلفه دكتور دانييل إمرفار


وقد صدر الكتاب في عام 2019، ويظل ترجمته الكاملة مشروعا خاطبت به دار الساقي الموقرة للنظر في تكاليف شراء حقوق ترجمة الكتاب ثم الشروع في الترجمة والنشر إذا ما كُتب لأن يرى هذا المشروع النور (انظر التفاصيل أدناه). لكني آثرتُ على كل حال تقديم ترجمة ختام هذا العمل لقراء هذه المدونة الكرام عسى أن يفتح هذا الموضوع آفاقا جديدة للنظر في سياسات الولايات المتحدة وتعقيدات توسعها في العالم.

فلنقرأ نص الترجمة ثم نناقش موضوعها
الرجاء التأكد من ظهور أيقونة نص الترجمة بصيغة pdf

الفكرة التي سأناقشها تعليقا على موضوع الكتاب قد تأخذ نمطا غير تقليدي نوعا ما، وتتعلق بجانب تاريخي ديني وارتباطه بمسألة التشريع القانوني للدولة أو أي كيان السياسي. يخبرنا القرآن الكريم عن قصة النبي لوط عليه السلام والقوم الذي أرسله الله لتبليغهم الرسالة. قيل في التوراة إنهم يسكنون مدينتين متجاورتين اسمهما سدوم وعمورة. ويعتقد كثير من الناس أن العقوبة الربانية حلت بهم بسبب ارتكابهم الفاحشة المثلية، ويبدو أن هذا الاعتقاد تعوزه الدقة والتوضيح. فهذه الفاحشة الهمجية جالبة لغضب الله بلا شك، لكن مصيبة قوم هذا النبي المنكوب بهم أنهم لم يكتفوا بممارستها فحسب بل شرعوا لها تشريعا قانونيا يجيزها ويسمح بها، مما أفشى بينهم جرأة عامة على ارتكابها علنا فضلا عن الفجور الذي كما يبدو من قصة هؤلاء القوم يجعل من النهي عنها مُجرم قانونا. فهو كما أشارت بعض النصوص التوراتية نهج عام له تقنين وتشريع يبيحه رسميا. هنا يبرز التدخل الإلهي لقطع دابر هذه الشجرة الخبيثة واقتلاعها، لتظل عبرة وعظة للأمم اللاحقة، لأنها سابقة خطيرة في تاريخ البشرية، وقد يؤدي التغاضي الابتدائي عنها إلى تبريرها تاريخيا. ومن جهة أخرى، لم يكتف هؤلاء القوم في تلكما المدينتين المطموستين بذلك السلوك والنهج الفاضح بل كان لهم تعامل قانوني آخر مشين لا يقل عن سوء تقنينهم للفاحشة المثلية، فقد توارد عنهم محاباتهم لابن البلد عند تخاصمه مع القادمين إلى دولتهم المدينة مهما فعل حتى وإن كان الأول مخطئا ومجرما، فالحق في قانونهم “وطني” ومحلي ولا يخرج عن دائرتهم، وهذا مفهومهم الأسمى للعدالة. ويذكرني هذا بالمقولات الدارجة التي تنحو للفشل والخيبة مثل “هذا ولدنا ما نخليه والله لو شنو، أما الأجنبي فيخسي ما له شي” ، و”إذا ما حبتك ما ضامك الدهر” وغيرها من المقولات التي تحولت إلى الجانب السلبي، فالمقياس لديهم أن الحق لا يخرج منهم وإن كانوا على باطل، وهذه جريمة بحق الإنصاف والعدالة ارتكبها أهل المدينتين، فظهرت بذلك مقولة “أَجْوَر من قاضي سدوم” أي أن قضاة سدوم اشتهروا بالظلم والجور حسب القوانين الظالمة التي حكموا بها بين الناس. تلج بنا هذه الملاحظة صلب موضوع هذه المسألة التي نعرضها في ترجمتنا اليوم، ولعلها قاعدة عامة يتجلى فيها أن المظاهر السلبية والمسيئة قد تظهر في أي مجتمع من المجتمعات، لكن تقنينها وتشريعها وإباحتها رسميا منذر بخطر عظيم يتهدد أي أمة تتواطء على ذلك كما رأينا في قوم لوط وغيرهم من الشعوب التي أزالها الله من الوجود أو على الأقل أسقط حضارتها وجعلها عبرة للمتأملين والمفكرين.
يعرض كتاب (كيف تخفي إمبراطورية) -الذي اخترنا ترجمة خاتمته- الولايات المتحدة على حقيقتها الناصعة، فهي إمبراطورية لا تختلف من ناحية الجوهر عن الإمبرياليات السابقة، ودولة استعمارية من الطراز الأول. على أن المختلف فيها يتعلق بالأسلوب والوسائل التي تتبعها إدارةً لهذا الامتداد العريض. ويأخذ التوسع الأمريكي شكلين اثنين، أما أولاهما، وهو الأصغر، فيتعلق بالأراضي والأقاليم التي تتبع الولايات المتحدة رسميا أو قانونيا مثل غوام وبورتوريكو وجزر ماريانا الشمالية وجزر فيرجين الأمريكية، وكلها كما نلاحظ مجموعات جزر وأرخبيلات متناثرة. أما الشكل الآخر وهو الأضخم فيتعلق بالقواعد الأمريكية الهائلة المنتشرة في العالم ويقترب عددها من 800 قاعدة بعضها أصبح بحجم المدن الواسعة، ونراها في كل القارات تقريبا والجزر المتناثرة في المحيطات. ويدرك الأمريكان أن هذا التوسع يقتضي إجراء تشريعات قانونية منظِمة لكيفية التعامل مع تلك الأراضي البعيدة عن مركز الولايات المتحدة التي يعيش فيها شعوب تختلف ثقافتها عن الثقافة الأمريكية ونمطية تفكيرها اختلافا شاسعا. فيستعرض المؤلف في كتابه جانبا من هذه التشريعات التي أصدرها الكونغرس والقرارات الرئاسية الأخرى الأخرى في هذا الصدد، ويسلط الضوء على الثغرات والمنافذ القانونية التي تتخلل هذه التشريعات والقوانين. والطريف أن كثيرين يلجؤون لاستغلال هذه الثغرات -ومنهم جمعات الضغط المنتشرة في البيت الأبيض والكونغرس وغيرها من المواقع الرسمية- تحقيقا لمصالح خاصة. ما يعني أن الأمريكان هم أفضل الناس تشريعا للقوانين الجميلة البراقة وهم أفضلهم احتيالا عليها. والكتاب بطبيعة الحال يبرز المآلات التي تنتهي إليها مثل هذا المظاهر الانتفاعية (البراغماتية) من تلك الثغرات على مدار فترات طويلة، إذ لا يظهر ضرر فوري من استعمال الثغرات القانونية -بل ربما تبرز فوائد مباشرة منها- لكن ما تلبث المشاكل الناجمة عنها في الظهور مع مضي الزمن، وبعض النماذج المثيرة للاهتمام مذكورة في هذه الخاتمة التي ترجمناها.
نقول من هذا المنطلق أن التشريعات القانونية التي تصدرها أي دولة سواء الولايات المتحدة أو غيرها لها مفعول يرتبط وقيمتها ومدى ما تشكله من منفعة حقيقية للناس أو ضرر فادح عليهم.، وهو ما قد يأتي لها بالسلام والنعمة أو يجلب لها السخط والنقمة. فالقوانين التي يذكرها الكتاب بعضها كارثي، وفي ثناياها استيلاء على حقوق هذه الشعوب المستضعفة في تلك الجزر النائية والمعزولة، أو حتى دولة معروفة مثل بورتوريكو كنا نظنها مستقلة (حتى الشعب الأمريكي يذكر الكتاب أن معظمهم لا يعرف أنها أقليم تابع لهم). بيد أن سلوك بعض الدول، كأمريكا، لا يبشر بالخير. لقد بدأ الشعب الأمريكي الأصلي دولته بأسس أخلاقية عامة: كالعدل والحرية والتخلص من الاستبداد والفضيلة والمساواة، فإذا به ينتهي إلى نقيض كل منها، ولعل من أوضح النماذج التشريع الذي أقره الرئيس السابق باراك أوباما بالسماح لزواج المثليين رسميا. والمضحك أن الأمريكيين عادة ما يتهكمون على هؤلاء المثليين بكلمة faggot. فثمة فرق شاسع وبواسع بين أن تنتشر ظاهرة المثلية في مجتمع ما وبين أن تشرع قانونيا وتُجاز رسميا، فهذا من أولى علامات سقوط أي قوة وحضارة، لمخالفة ذلك للناموس الذي وضعه الخالق في كونه الذي يعيش فيه بني البشر. والولايات المتحدة لن تكون لها ميزة عن قوم سدوم وعمورة، اللهم أن البشرية في مجملها قد نضجت ولم تعد بتلك الفجاجة التي كان عليها أولئك القوم بارتكاب الفواحش طوعا أو كرها، كما أن الخالق سبحانه قادر على إنزال العقوبة على من يشاء بالطريقة التي يشاء ومنها تحريك جنوده كالأعاصير والعواصف، وقد لفت انتباهنا كثرتها مؤخرا في منطقة أمريكا الشمالية والوسطى. وعلى كل حال هذا ليس من شأننا بل من شأن الخالق، فهو ينزل العقوبات على عباده ويفتنهم ويبتليهم ويختبرهم لحكمة يريدها هو سبحانه، والمسلمون ليسوا استثناء من ذلك، فمثلهم في ذلك مثل باقي البشر.
على أن فهم هذا السلوك الإمبريالي هو ما نسعى إليه، لا سيما وأن الولايات المتحدة تعلن تاريخيا أنها تعارض الاستعمار، وهي نفسها قد تخلصت من استعمار بريطاني (مع أن صفحات التاريخ تثبت أن هذا الزعم غير دقيق فثمة مؤرخون يؤكدون أن حرب الاستقلال الأمريكية كانت بمنزلة الحرب الأهلية بين إخوة وأبناء عم اختار بعضهم الاستيلاء على الأرض الجديدة (أمريكا) وتكوين حياة فيها، فيما اختار آخرون الوقوف مع الدولة المركزية بريطانيا، أي أنها حرب انفصالية بامتياز). ويبدو أن مع مرور الزمن اختارت الولايات المتحدة أن تنتهج السلوك الإمبريالي الذي زعمت أنها عانت منه، بعد أن تبين امتلاكها فائضا من القوة يمكّنها من التوسع. ويبدو كذلك أن حربها مع أسبانيا التي استهلت بها القرن العشرين وانتصارها عليها واستيلائها على منطقة فلوريدا وبقية المناطق الجنوبية الأمريكية ثم مطاردتها لأسبانيا واحتلال الأمريكان الفلبين، كل ذلك سوّغ للولايات المتحدة مواصلة نهجها التوسعي الذي نشهده حاليا. بيد أنه إحقاقا للحق يجوز للأمريكيين وصفه أنه توسع ذكي ويحرص على عدم تشويه سمعة الولايات المتحدة التي ما انفكت تنادي “بحق تقرير المصير” للأمم المستضعفة حسب مبادئ الرئيس وودرو ويلسون الشهيرة بُعيد الحرب العالمية، لكنها مبادئ كما اتضح لاحقا طواها الزمن وقلبت لها الولايات المتحدة ظهر المجن.
يوضح الكتاب هذه الملابسات كلها ويعيد للقارئ تجسيد الصورة الواقعية للولايات المتحدة الأمريكية كقوة إمبراطوية تتخذ من الأساليب الإمبريالية غير التقليية نهجا وسياسة منظمة للبقاء قوة عظمى وحيدة ومهيمنة على العالم.
مشروع ترجمة الكتاب
قدمتُ هذا المشروع إلى دار الساقي اللبنانية كما أسلفت، وهي مؤسسة نحسبها من المراكز الثقافية النادرة التي يتسم عملها بالجدية والمسؤولية في وطننا العربي بعد أن انتشر الغث للأسف ودخل على هذا المجال دخلاء لا يمتون بصلة إلى الثقافة بالرغم من مزاعمهم وتمظهرهم بالثقافة، وأضحت الترجمة وفنها ضحية لهذا النزيف الفكري (تدليلا على ذلك شهدنا نشر ترجمات كتب ركيكة وهزيلة المستوى وتبين أن بعضها مترجم آليا عبر خدمة مترجم جوجل Google Translate وهذه طامة إذ وجدت بعضا من هذه الكتب المنشورة في معرض الكتاب السابق في الكويت، وما من حسيب أو رقيب يردع هذا الاستهتار)
فالفكرة ببساطة أنني أنوي تمويل هذا المشروع جزئيا أو كليا، لا سيما في ما يتعلق بتكاليف حيازة حقوق الترجمة. وهذا يعتمد بصراحة على قيمة هذه التكاليف، فإذا كانت بحدود استطاعتي توكلت على الله، أما إذا هي باهظة التكاليف (كما هي عادة دور النشر الغربية) فلا حول ولا قوة إلا بالله. ومما يثير الاستغراب أن هذه الدور الغربية تعتقد أن نظيراتها العربية تكسب كثيرا فتعمد إلى أسعار مبالغ فيها لحقوق الترجمة، وهذا غير صحيح البتة. فلو كانت الدور العربية تربح فعلا لما رأينا من بعضها سلوكيات غريبة. فيشتكي لي أحد المؤلفين أن الدار التي ألف لها كتبه تقول لها أن وزعت من كتابه عددا محدودا من النسخ، ثم تبين له فيما بعد أن ما وزعته ونشرته أضعاف هذا العدد! ثم لو أن الدور العربية تربح لكوّنت لها سمعة محترمة ما بين المترجمين وأعطتهم حقوقهم كاملة وكونت شراكات معهم لإنتاج كتب وأعمال جادة ومفيدة. المترجم يعاني من بخس حقه بوضوح وحتى في بعض الدول الثرية مثل الكويت والسعودية والإمارات، إذ لا يتعدى معدل سعر ما يجنيه من ترجمة مبلغ الصفر (مصحوبا بكسور) سنت للكلمة الواحدة، فما بالك بالدول العربية الأخرى التي تعاني من مشاكل اقتصادية واجتماعية مزمنة. وعدم إنصاف المترجم وإعطائه حقه كاملا يؤدي إلى كساد هذا المجال وتسلل الدخلاء إليه (أصحاب الترجمات الجوجلية)، ومن ثم شيوع فقر فكري عام بين عامة الناس بسبب عدم بروز الترجمات الصحيحة وسطوة الترجمات الهزيلة كما رأينا في وسائل التواصل الاجتماعي.
الحقيقة أنني لا أعوّل كثيرا على خروج هذا المشروع إلى النور نظرا إلى مشاكل عديدة منها مسألة التمويل، ثم تعرض بيروت إلى الانفجار الهائل الذي قد يعطل أشياء كثيرة، وقبل ذلك وقوع جائحة الحمّة التاجية (كورونا) وإلغاء معارض كتاب كثيرة هذه السنة. ولذلك آثرت نشر هذه الخاتمة هنا في مدونتي إعمالا للحكمة العربية والخليجية “العوض ولا القطيعة” أو شبيهتها “شويٍ نتهنا به ولا واجدٍ نتعنا به”
وتقبلوا أطيب تحية
فيصل كريم