لعل المأساة الأكبر التي وقع فيها الشعب الأمريكي -كغيره من الأمم التي غلبت ثم سقطت- تتجلى بانخداعه بمظاهر القوة والعظمة والتقدم. هذا ما نستشفه من هذا الفيلم الوثائقي الذي يعود بنا إلى الحرب التي شنها الأمريكان على فييتنام وأسبابها وبعض ما تمخض .عنها من نتائج وتداعيات ما انفكت تؤثر على مخيلة الشعب الأمريكي مسببة له جرحا غائرا لمّا يندمل
الفيلم الوثائقي
How Vietnam Was lost
كيف خسر الأمريكان حرب فييتنام
مشاهدة الفيلم
مظاهر القوة ومأساة الأمريكان
ربما هناك من يندهشون من وصف “المأساة” على حال الشعب الأمريكي، لأنه شعب أقوى دولة في العالم وأكثرها تطورا وهيمنة ويمتلك الإقتصاد الأكبر والعملة المستخدمة عالميا، وغيرها من العوامل. لكن المطلع على أعماق الواقع الأمريكي يجد أن هذه ليست سوى مظاهر تطفو على السطح ولا تعكس واقع الحال بدقة. عوامل التفوق المذكورة آنفا أصبح لها أثمان باهظة على الأمريكيين أودت بهم في مآلاتها إلى نقطة حرجة للغاية، ألا وهي فقدان الإيمان بالدولة وعدم الوثوق بمزاعمها. لا أود هنا الانحراف كثيرا عن صلب موضوعنا، لكن أصبحنا أمام حالة تمنح المؤمنين بمذهب “اللاسلطوية” Anarchism وجاهة كبيرة بإطروحاتهم التي تنادي بنبذ الدولة ونظامها ومؤسساتها نظرا لتحولها إلى ما يشبه العصابة التي تخطف حافلة أو سفينة أو طائرة وتغتصب إرادة الراكبين فيها. ولعل كتاباتي السابقة حول هذه النقطة تكررت كثيرا إلى حد يبعث الضجر والملل في نفس القارئ. إلا أن مسألة الدولة وشكلها وهويتها هو الموضوع الأهم على الإطلاق في هذا العصر وفي كل العصور إذ إنه يمس حياة الفرد قبل الجماعة، ويؤثّر بحياة المواطن قبل المجتمع، فلا مفر إذن من محاولة النظر لهذا الأمر الحيوي والحاسم في حياة البشرية عبر أكثر من زاوية. فهل أصبحت الدولة الأمريكية تجسد هذا البون الشاسع بين آمال شعبها والتطبيق السيء للقوة ومظاهرها التي وقعت فيه، وأن هذه الدولة انفصمت عن البداية التي وضعت فيه مبادئها التي أعلنتها للعالم أجمع حين نادت بمبادئ “الحرية والعدالة والمساواة ومكافحة الامبريالية”؟ هل أمست الدولة الأمريكية وحشا بعدة رؤوس كالذي نراه في الأساطير الوثنية القديمة ينهش في بقاع العالم المختلفة كما ينهش في أبناء بلده؟ وإذا كان القانون والدستور في نظام الولايات المتحدة هو النموذج الأسمى لتطبيق العدالة في العالم، فأين ثماره، ولمَ يشتكِ المواطن الأمريكي من وجود خلل عميق في العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة وأنه واقع تحت عجلة آلة ضخمة لا ترحم تجعله لا يختلف عن فأر التجارب الذي يظل يدور في الآلة ولا يكف عن الدوران؟ إذن ثمة خلل عميق في هذه الدولة لا تسع هذه السطور القليلة البحث فيه.
على أن هذا الخلل لم يتوقف عند أعتاب الديار الأمريكية بل تعداها إلى بقاع مختلفة من العالم بضلوع الأمريكان في الحرب العالمية الثانية (لا ننظر إلى تورط الولايات المتحدة في الحرب العالمية الأولى كمشاركة حاسمة) حين “انتصروا” مع الحلفاء، ثم ضلوعهم بعدة صراعات ونزاعات تالية كشفت عن شبق للقوة والحرب. ومنها الحرب في فييتنام التي دخل الأمريكان فيها لأسباب واهية لا تختلف عن مبررات ذلك الذي قاتل طواحين الهواء. نجم عن هذا الأسلوب “الدون كيخوتي” ما لا يحمد عقباه، فهدف محاربة الشيوعية “داخل أمريكا وخارجها تبين أنه سعي مجنون وأخرق، وتأخرت الحكومات الأمريكية بإدراك أن من يقضي على الشيوعية إنما هي الشعوب التي لن تتقبلها في حال ترسيخ العدالة في مجتمعها لا استخدام العضلات العسكرية على غير هدي. وهكذا أصبح الأمريكان كالرجل الأعمى الذي يريد الشجار مع من حوله، فهو لا يرى الذي أمامه بل يندفع عليه بقوة وإذ هو يصطدم بحائط أو هوة سحيقة قد يسقط منها. فحدثت الهزيمة المؤكدة في فييتنام وانكسرت مظاهر القوة، لكن الثمن (الذي يعرض بعض جوانبه الفيلم الوثائقي) كان فادحا، إذ ظهر الجانب البربري والوحشي في هذه القوة العظمى عندما استمرأت قصف الأطفال والنساء والشيوخ بالقنابل الحارقة (النابالم) ولم يردعها قانون دولي ولا مواثيق حقوق الإنسان (ولعلهم يقصدون منها حفظ حقوق الإنسان الغربي حصرا، أما خلق الله الآخرين فليس لهم سوى النابالم والقنابل الذرية) فشاهدنا مناظر مؤلمة وبشعة يندى لها جبين الإنسانية.
انعكست هذه البشاعة على المجتمع الأمريكي الذي تغيرت نظرته لهذه الحرب المفجعة، ويبدو أن من تصدر المشهد بالوقوف في وجه السلطة هم الطبقة المتعلمة في الجامعات حيث اختار الفيلم الوثائقي الذي نترجمه اليوم مثال جامعة وسكونسن التي جرت فيها مظاهرات واعتصامات متكررة رفضا للحرب واستنكارا لسياسات الحكومة الأمريكية. لكن المظهر المتكرر الذي نلاحظه بهذا الفيلم وما زال يلقي بظلاله على المشهد الأمريكي سلوك الشرطة الأمريكية العنيف ضد المتظاهرين والمتصمين السلميين. إن هذا السلوك العدواني والعنيف يكشف الكثير عن مدى الإيمان بجوهر القانون وروحه. قبل شهرين من الآن عاش العالم بأسره أحداث قتل الشرطة الأمريكي لرجل من أصول أفريقية فاندلعت نتيجة لهذا العمل الإجرامي مظاهرات عارمة اجتاحت الولايات الأمريكية قاطبة. الفيلم الذي ترجمناه هنا أنتجته البي بي سي فرع الولايات المتحدة في عام 2005، ويركز على المرارة التي شعر بها الناس من الشرطة الأمريكية وسلوكها الصادم والعنيف، كما يعرض الفيلم شهادات عناصر الشرطة الذين مارسوا الضرب والعنف بكل حقد، وكشفت هذه الاعترافات كذلك عن ملمح طبقي وراء هذا الحقد، وقد رأينا هذا يتكرر في أزمة مقتل جورج فلويد وإن كان هذه المرة يطغى على المشهد المظهر العنصري، وعلى النظام الأمريكي الحذر كل الحذر، فالفتنة نائمة ولعن الله من أيقظها، ولا تسلم الجرة في كل مرة.
شاهدنا في هذا الفيلم الجنود الذين قاتلوا في فييتنام يبكون كالنساء بعد هزيمتهم النكراء في أحد المعارك، وهذا عيب ولا يجوز. فإن كنتم معتدين على خلق الله فكونوا شجعانا وواجهوا مصيركم برباطة جأش، أما إن كانت حكومتكم الأمريكية ومؤسساتها قد غررت بكم وزجت بكم في أتون صراع لا ناقة لكم فيه ولا جمل فلا تلومن إلا أنفسكم وانخداعكم بمظاهر القوة أيها الجنود الأشاوس فقط وراء الأسلحة الفتاكة وسلاح الطيران الجبان.
الحق أننا أمام أفضل شعب يبكي وقت انكشافه أمام الحقيقة، وأفضل شعب ينتخب رؤساء حمقى ومعتوهين، من أمثال ترومان وجونسون وفورد وريغان وبوش الابن، ومؤخرا أتوا لنا بترامب.🤣
عن الترجمة وصبر ابن عباس
تعرفت على الأخ العزيز أحمد خضير عباس قبل سنة ونصف تقريبا، وكان ضمن مجموعة من الإخوة والأخوات ممن طلبوا التعرف على مجال الترجمة الوثائقية والتدرب على أدواتها واختيار إحدى أفلامها. والحق أن أحمد تميز بإخلاصه بهذا المسعى بالرغم من كل الظروف الصعبة في بغداد أعانه الله عليها، فاختار الوثائقي بنفسه وباشر الترجمة وأخذ وقته فيها. لكن حدث تاليا أن انشغلت في ترجمة كتاب “عاصفة في كوب شاي” واستغرق مني ذلك وقتا كما يعلم قراء هذه المدونة، ويبدو أن الصديق أحمد كان قد سلمني نص ترجمته في بداية هذا العام وأيضا منعني الانشغال بترجمة الكتاب الحالي من إنهاء المراجعة بالشكل اللائق، وكما يعلم الزملاء الذين يطلبون المساهمة بمراجعة ترجماتهم المرئية أنني آخذ وقتي الكافي في هذه العملية الشاقة، وأبذل قصارى جهدي بالمراجعة حتى ننتج عملا لائقا ومقبولا عند الجمهور. فأشكر الأخ أحمد خضير عباس أولا على جهده الكبير بترجمة هذا الفيلم الجميل ثم على صبره عليّ حتى نشرنا لهذا العمل، وأرجو أن تكون هذه الترجمة باكورة لأعمال ترجمية هامة يضطلع بها ابن عباس المحترم. كما أرحب جميع الزملاء الآخرين الذين يرغبون بالمساهمة في هذه المدونة بترجماتهم المرئية أو النصية
بالنسبة إلى العنوان، فلعل بعض من يهتم بالترجمة يتساءل لماذا ترجمة How Vietnam was lost خرجت بهذه الصيغة “كيف خسر الأمريكان حرب فييتنام” وهذا مجرد مثال على كيفية التعامل مع مسألة العناوين لأي عمل سواء أكان لترجمة مرئية أم لأصناف الترجمة النصية الأخرى. فلي أن أذكر في هذ الصدد جملة من النقاط البارزة:
-
من ناحية مبدئية، للمترجم أن يتعامل مع العناوين بحرية منضبطة، فلا ينبغي أن يترجمها حرفيا فتظهر النتيجة ركيكة بما لا يتناسب وأساليب اللغة العربية المقبولة، وفي الآن ذاته عليه ألا يبالغ في الابتعاد كثيرا بتأويل معانيها. فهو يضع العنوان السليم الذي يعكس مضامين العمل وفكرته بإيجاز معتبر، دون التقيد كثيرا بنص العنوان، لكن له أن يعيد صياغته بالطريقة المناسبة، لأن العنوان الأصلي غالبا ما يجسد فعلا الفكرة العامة لأي عمل.
-
من الناحية الأسلوبية اللغوية، اتفقنا على قاعدة مهمة مفادها: “عندما يكون الفاعل معلوما في الجملة -سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة- فلا يصح ترك الجملة مبنية للمجهول“. فترك جملة المصدر مبنية للمجهول في حين أن الفاعل معلوم فهذا من أشد الأساليب ركاكة في اللغة العربية، على خلاف الإنجليزية التي تعده مقبولا وسليما. أي أن المترجم ملزم بوضع الفاعل بمكانه الصحيح في الجملة إن ورد ذكره فيها، أو استنباطه إن كان التلميح إليه واضحا جليا ولا يحتاج إلى دلالة، كما هو مثال عنواننا أعلاه.
-
لماذا الأمريكان وليس الأمريكيون؟ لا أعتقد أن ثمة فرق في الدلالة، فاللفظان يشيران إلى المدلول ذاته، لكن لعل الاختلاف يظهر في نبرة الكلام والدرجة الشعورية في الإشارة ضمن نطاق اللغة العربية فقط ودلالاتها النفسية والإيحائية. فثمة من يقول إن دلالة لفظ “أمريكان” تحمل إيحاء لنظرة سلبية تجاه هؤلاء القوم مليئة بالشك وعدم الاطمئنان والتوجس والنظر لهم كقوة تريد الهيمنة على منطقتنا وفرض إرادتها عليها (وهذه نظرة صحيحة في عيون من رأى سلوك الأمريكان خلال العقود السالفة). وثمة آخرون يقولون إن دلالة وصف “أمريكيون” إنما هي دلالة محايدة وهي الأسلم والأحوط عند الوصف (وهذه رؤية لغوية لا غبار عليها). إذن الخياران معا (أمريكان أو أمريكيون) صحيحان، ويستطيع المترجم أن ينتقي منهما ما يشاء، مع الإشارة إلى المترجم ليس عليه بالضرورة أن يلتزم الحياد، لكن عليه في المقام الأول التقيد بالموضوعية، وثمة بون شاسع بين الحيادية والموضوعية.
-
نلاحظ أن الجملة الاستفهامية للعنوان تأخذ بعدين إثنين عند النظر لها نظرة فاحصة. فلو كنت أمريكيا وأردت نقلها للعربية فلي أن أترجمها “كيف خسرنا حرب فييتنام”. لكن لغير الأمريكيّ أن يترجمها “كيف خسروا حرب فييتنام”، لأن العنوان بنى جملته الاستفهامية للمجهول. غير أن استثمار وظيفة الاستنباط للفاعل البديهي جعل الجملة المترجمة للعربية واضحة لا لبس فيها، ولعل هذا المنحى هو أفضل ما يمكن أن يلجأ إليه المترجم تفاديا للإشكال والغموض الذي لا داعي له.