كثير من إخواننا المحترمين في التيارات الإسلامية يعانون في تفكير اختزالي أحادي بغرض تبسيط الأمور وإقناع العقل.
الحقيقة أن معهم حق، فما جرى من زوال للخلافة تكاد تطير منه العقول ولا يصدقه أو يتعايش معه أي مسلم قبل ذلك. لكن لله حكمة في كل ما يجري، والأهم أن له قوانين وسنن في الكون لا تنكسر ولا تنثني لأحد، لا لمسلم ولا لغير مسلم الركون إلى أن مبدأ “نحن أفضل منهم” يعني السير على نهج “شعب الله المختار” الذي ابتدعه اليهود ولقوا من جرائه كوارث وطوام كبيرة. لست – كمسلم – بأفضل من غيرك سوى بمقدار ما تقوم به من فعل وتأثير، سواء أكان تأثيرا إيجابيا أم سلبيا. أي أن السنن الكونية تنصرف لمن له قدرة على الفعل والتأثير والتغيير، أما من يسرح بالأماني ويسجن نفسه بالتاريخ ويظن أن الله تعالى يفضله لأنه مثلا “مؤمن” فقط فهذا وهم كبير.
المفارقة التاريخية المعقدة في قصة مصطفى كمال أن “المؤمن” -كما يظهر بالأفلام- هو “الشرير”، وغير المؤمن يظهر بشخصية الطيب والبطل. السلطان الأخير للدولة العثمانية (وهو المؤمن هنا) بصم للحلفاء بما يريدون حفاظا على عرشه، والسيناريو الذي يريد منا الغرب تصديقه أنه موافق على احتلال البلاد من الحلفاء. والمشكلة أن ما من سيناريو آخر لدينا عن هذا السلطان. في حين أن كمال حسب السيناريو الذي لا نملك سوى أن نتعامل معه، هو المنقذ وموحد البلاد وهازم الحلفاء وطاردهم وهو كسح الآرمن والإيطاليين واليونان. وهذا ما لدينا حتى الآن، فهل نعيش بحالة نكران لما يفترض أنه واقع تجسد على الأرض؟ لكن بعض التيارات الإسلامية – وأشدها خيالا خصبا الإخوة في حزب التحرير – تفضل أن تعيش حالة النكران وعدم تجاوز الصدمة، فتنسج قصصا ربما تصح أو لا تصح من أن مصطفى كمال ينتمي “ليهود الدونمة” فقام بفعلته الشنعاء بإلغاء الخلافة وإبعاد المظاهر الإسلامية العامة من الحياة في تركيا. ويؤدي بها التفكير الاختزالي إلى تفسير الأشياء والأحداث من هذه الزاوية الضيقة. وهم لا يجتهدون بتفسير الضعف التدريجي الذي طرأ على الدولة العثمانية قبل قرون (أي عقب حقبة السلاطين العشرة الأقوياء) وتحليل الأسباب وصولا إلى النتيجة الحتمية بانهيار الدولة. وبالتالي تعيش التيارات الإسلامية في حلقة مفرغة لا ينتج عنها تقدم في التفكير السياسي المنطقي.
لا شك أن مصطفى كمال، الذي اخترع لقبا أراد به إغواء الأتراك وأنهم أبوهم (أتاتورك)، هو أحد أكبر الطغاة والإقصائيين في القرن العشرين. لكنه ليس الوحيد. الجنون القومي لم يتوقف عند تركيا بل تجاوزها لمعظم بلدان العالم بدءا من منتصف القرن التاسع عشرليستغل حالة من الركود العام عانت منها الملكيات المتهالكة السابقة. واستمر هذا الجنون، الذي استند أحيانا إلى مبررات وجيهة، ليرسم شكل الدولة الوطنية في العالم العربي دون وجود أية أسس شرعية أو سياسية أو تاريخية أو أخلاقية أو إقتصادية تعززها وتقوي من ركائزها عربيا وإسلاميا، اللهم شرعية القوة التي منحها الغرب للدولة الوطنية ودججها بالسلاح في وجه شعوبها المحرومين من قيم العدالة والمساواة والحرية. لو طفنا في الدول عربية جميعا لما وجدنا شيئا من استقلال القضاء الذي هو عماد قيام الدول وثباتها، لا يوجد البتة. وقد كشفت الأحداث بعد 2011 بعض الدول العربية التي تشدقت طويلا باستقلال قضائها فانهارت هذه الخرافة في هذا الاختبار وما انفكت الانهيارات تتوالى. هذه أنظمة لا مستقبل لها وزوالها قريب جدا (ولا استثني منها أحدا) والغريب أنها هي من حكمت على نفسها بذلك.
الخلاصة أن من يقع عليه اللوم ليس نموذج مصطفى كمال لوحده بل هذه المنظومة الفاشلة قاطبة التي هجّنها الغرب وحاول أن يحقنها في عروق الأراضي العربية خدمة لمصالحه. أعتقد أن هذا ما يجب أن نستنبطه من فكرة “سلام ما بعده سلام” لديفيد فرومكين.