مقال: قطر وقناة الجزيرة… أزمة خليجية تلد أخرى

في ردي على إشارة الدكتور عبد الحميد مظهر لقراءة كتاب “حروب كلامية، الإعلام والسياسة في الإعلام العربي” لكاتبه مأمون فندي، كان لي رأي في موضوع الكتاب الذي يتطرق لقناة الجزيرة ودولة قطر وما تمر به منطقة الخليج العربي من أزمة عاصفة منذ شهرين وأكثر. فذكرت التالي:

لا أنكر جهود صاحب الكتاب يا دكتور عبد الحميد، كما أن تاريخ صدوره قد يسهم بتخفيف حدة التحيّزات المتوقعة (فقد تخلى كثير من المثقفين والمفكرين عن هدوئهم واتزانهم المعهود قبل 2011 وانسعروا مع الحملة المسعورة المضادة للحراك الشعبي بدءا من تلك السنة)، لكن مسألة تأسيس قناة الجزيرة ثم قناة العربية وما تبعهما من قنوات إخبارية قد لا يرتبط فقط بالصراع الأفقي بين الدول الخليجية، رغم كونه عاملا مؤثرا بطبيعة الحال.

المسألة ترتبط بمنظورها الأشمل في المشهد الاستراتيجي العام للمنطقة والفوضى الجغرافية والتاريخية التي أحدثها اتفاق سايكس-بيكو، والذي خلق من العدم كيانات صغيرة إلى جانب كيانات أكبر مصطنعة. وإذا أمعنا النظر قليلا، نجد أن هذا المنظر غير الطبيعي يتركز في المشرق العربي أكثر منه في المغرب العربي. وسنرى أن هذه التوترات والصراعات المتفاوتة في درجاتها في المشرق تحدث كل عقد أو عقد ونصف تقريبا، ولن يتوقف حدوثها في المستقبل المنظور لأنه ما من مانع فعلي -سياسيا أو استراتيجيا- يكبح جماح هذا الانحدار المتواصل بدءا من عشرينيات القرن الماضي والجاري حتى الآن. كما أن الكيانات السياسية التي جمعتها بريطانيا تحت مظلة ما يسمى “الجامعة العربية” لم تعقد فيما بينها حتى اللحظة اتفاقا أو تسوية على غرار تعهدات دول الاتحاد الأفريقي في ما يتعلق باحترام أو قدسية الحدود، كما يقول ديفيد فرومكين في كتابه الهام “سلام ما بعده سلام“، وهو ما يجعل المشكلة تولّد أختها بدوامة لا نهاية لها، سواء في المشرق العربي أو في مغربه، وإن كان للأخيرة منطق جغرافي أقل توترا ولكنه لم يخلُ من أزمات مماثلة.

وإذا أدركنا هذا السياق الجيو-استراتيجي، سنلحظ أن دولا صغيرة كقطر والكويت ولبنان دائما ما تشعر بوطأة موقعها الجغرافي وضآلة عمقها الديمغرافي ووفرة ثرواتها الكامنة، ما يجعلها تشعر أنها عرضة للأطماع والاصطياد في أية لحظة من الكيانات المجاورة الأكبر. وهكذا تتجلى ما يُطلق عليه حاليا “أزمة قطر”، التي لا أعتقد إطلاقا أنها بدأت فقط في الشهور القليلة الماضية، ولا في سنة 1992 حين وقعت “حادثة الخفوس“، ولا سنة 1969 عندما فشل انضمام قطر والبحرين “لاتحاد الإمارات العربية“، بل يعود إلى جذور أقدم وأعقد.

يبدو أن قطر وشيوخها آل ثاني هم آخر من أدار ظهره للدولة العثمانية، ولم يعقدوا اتفاق الحماية مع بريطانيا إلا بعد انجرارهم لذلك إثر تهافت المشايخ الأخرى على الإنجليز بعد اضمحلال قوة العثمانيين. ويبدو أن الإنجليز أرادوا بقاء شبه جزيرة قطر بمنأى عن قوة تقليدية ذات قوة نسبية كآل سعود (خصوصا الدولة السعودية الثانية (1828-1891) ) أو آل خليفة الذين حكموا شبه الجزيرة القطرية، بالإضافة إلى البحرين، وكانت عاصمتهم مدينة الزبارة وقلعتها الواقعة شمال غرب قطر

ثم طَرَدهم منها لاحقا على يد بريطانيا بعد اتهامهم لآل خليفة -كما تذكر بعض الوثائق البريطانية- “بانتهاك القانون البحري” على حد زعم الكولونيل البحري لويس بيلي. فاحتل آل ثاني موقع القيادة في شبه الجزيرة القطرية بعد زوال آل خليفة منها بعد غضب البريطانيين عليهم وبعد أن أنهكتهم الحروب الطويلة مع آل سعود. ولا نعلم على وجه الدقة إن كان الأخيرين يعتقدون (تاريخيا على الأقل) أن شبه الجزيرة القطرية جزء لا يتجزأ من المملكة التي نشأت في بداية الثلاثينيات، أو إن كان آل ثاني قد قطعوا عهدا بعدم انفصالهم عن الدولة السعودية أو مخالفتهم أو تحديهم لها (ربما على غرار الوعد الذي قطعه الأمير الأنجلوساكسوني هارولد الأسير إلى آسره الأمير النورماندي وليام قبل معركتهما الحاسمة سنة 1066 لينادي وليام بنفسه حاكما شرعيا لإنجلترا بسبب هذا الوعد). وما يهم هو أن بريطانيا قد أعطت الحماية لحكام قطر الجدد، الذين هم يؤمنون بالمذهب الوهابي تماما كآل سعود بل وربما ينافسونهم في وهابيتهم (آل ثاني كما هو معلوم يعود أصلهم إلى بني تميم ويفتخرون بالشيخ محمد بن عبد الوهاب تميمي الأصل كثيرا إن لم يبالغوا أحيانا بالتباهي به) وذلك في ستينيات القرن التاسع عشر. ويبدو أن مع انشغال السعوديون بتأسيس مملكتهم، كرّس آل ثاني موقعهم بالأرض القطرية التي قاتل من أجلها السعوديون الأوائل وساهموا بطرد آل خليفة منها -بشكل أو بآخر- وهو ما يشي بالشعور بعدم الرضا من آل ثاني مهما فعلوا أو اجتهدوا. ولا أود أن أبالغ بتفسير فشل انضمام قطر لاتحاد الإمارات العربية على أنه وقع لوجود فيتو سعودي، لكن ضحالة المعلومات بهذه القصة لا تجعل أي تفسير بعيدا.

وقد يرى القارئ أن هذا البعد التاريخي ما هو إلا قراءة متعسفة بعيدة عن جوهر المشكلة، إلا أن كيانا صغيرا كقطر مازال يرى أن الخطر القادم من الغرب هو تهديد وجوديّ ماثل. وقد عزّزت حادثة الخفوس في أواخر سنة 1992 هذا الهاجس والكابوس المزمن، وكرّسه فشل منظومة مجلس التعاون العربي في إيجاد صيغة فعّالة لحل المشاكل البينية لدول المجلس. فإذا كان دبلوماسي عريق وذكي وحصيف كعبد الله يعقوب بشارة وقف عاجزا أمام تلك المشكلة التي بدت أنها طارئة آنذاك وأمكن احتواؤها، فليس من المعتقد أن أي أمين عام آخر لمجلس التعاون قادر على فعل شيء (المفارقة أنه قد قيل إن حسني مبارك الرئيس المصري المخلوع هو من ساهم بتهدئة المشكلة بين قطر والسعودية في أكتوبر 1992، كما يقوم السيسي الآن بتأجيجها، أي أن منظومة مجلس التعاون عاجزة عن حل المشكلة أو حتى الاشتراك في حلها في حين أن النظام المصر متورط فيها، فتأمل).

ويبدو أن قطر إثر مواجهتها لهذا الموقف بعد سنة 1992، لجأت لاحقا وتدريجيا إلى اتخاذ إجراءات مصيرية من أربعة محاور رئيسة:

أولا: إعادة العلاقات الدبلوماسية مع العراق وإيران والتطبيع الكامل معهما (وهو ما سبب صدمة للكويت مثلا، ولا تسأل عن السعودية لأنها الطرف المناوئ هنا)

ثانيا: مخاطبة الولايات المتحدة بغرض التفاوض لتكوين أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في الشرق الأوسط (فتضمن بذلك عدم اقتراب أحد منها، مع الإقرار بأن معظم الدول الخليجية لديها قواعد ومنشآت وتسهيلات عسكرية أمريكية كبيرة، لكن يبدو أن قطر تفوقت بحكم موقع قاعدة العديد المتوسط جويا وبحريا)

ثالثا: إقامة علاقات تجارية مع الكيان الصهيوني وافتتاح مكتب تجاري لها في منتصف التسعينيات (أغلق لاحقا سنة 2002 إثر محاصرة رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات) أما غرض المكتب فهو مفهوم طبعا ويتلخص باستمالة ود الأمريكان من خلال الوسيط الصهيوني المؤثر، وهو ما يمارسه بعض حكام الخليج حاليا لمآرب أخرى.

رابعا: تأسيس قناة الجزيرة سنة 1996 واستثمار خطأ فادح تجلى بإلغاء قناة البي بي سي عربي (1994-1996) فما كان من حكومة قطر سوى استدعاء طاقم البي بي سي بأكمله لتكوين قناة الجزيرة الإخبارية. أما غرض أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة فتلخص بوضوح بتشكيل ذراع إعلامي طويل لقطر بعد ضمان أمنها السياسي والعسكري.

ويظهر جليا أن الجزيرة -وهي لب البحث في كتاب فندي هنا- امتلكت امتدادا بعيدا فعلا إلى الحد الذي جعلها كالنقطة التي تحرك بحرا راكدا، كما يشير شعارها، بل إنها اختلفت عن معظم قنوات العالم الكبرى التي تبحث عن أخبارها في كل مكان لتكون هي بذاتها خبرا (كما نرى الآن) كما أنها من القنوات التي صنعت الأخبار وجلبتها لدائرة الحدث، وهو سلوك يثير كثير لغطا كثيرا وعلامات استفهام أكثر من الناحية المهنية والموضوعية.

تكمن مشكلة الجزيرة الكبرى -حسب رأيي- في تقلبها وعدم استقرار مبدأها أو خلوه من الإشكالات التي تتعارض أحيانا وقضية الحريات العامة: فهي مثلا تناصر النظام السوري منذ تأسيسها إلى أن وقعت ثورة الشعب السوري في ربيع 2011، وكأن هذا النظام خلا من قمع الحريات وارتكاب المجازر طوال تاريخه السابق. ثم أن الجزيرة تقلبت كثيرا في تسليطها الضوء في الشأن السعودي تبعا لعلاقة الدوحة بالرياض، إلى حد السكوت عن انتهاكات للحريات العامة وقمع الآراء سجلتها كل القنوات الإخبارية المستقلة والمهنية العالمية، ثم فجأة تكر سبحة التقارير اللاذعة كما نرى الآن. أما عن أسلوبها بتغطية الشأن السوداني فمد وجزر عجيب يقترب من لعبة شد الحبل الطويلة ولم توضح الجزيرة مثلا مشكلة دارفور ومفاصلها وجذورها والمتسببين فيها للمشاهد العربي، فأهل الأرض قاطبة يتحدثون عن أشياء لا نعرف صدقها من كذبها فيما نحن وكأننا أمام طلاسم ولوغاريثمات ليس لها حل ولا أصل. لكن في المقابل التزمت الجزيرة بموقف مهني معارض لسياسات النظام المصري منذ نشأتها وكانت منبرا للصوت المصري المقموع في بلاده ومنحت مساحات لا بأس بها تعبر عن مكانة مصر العظمى في نفوس العرب ونقلت بشفافية أزمة الإنسان المصري تجاه علاقته مع نظامه الحاكم وهو ما لم يُمكّن الإعلام والصحافة المصرية الحرة من تبنيه، وهو ما يحسب للجزيرة قطعا.

على أن من الأهمية بمكان أن ندرك أن الجزيرة ما هي إلا ذراع إعلامي للحكومة القطرية، لكنها نجحت في الوقت عينه في الالتزام بخط مهني احترافي شديد البراعة بنقل الخبر ونقله للمشاهد العربي بأسلوب يعكس هواجسه وأمانيه وتطلعاته. فهي وإن تلقت نقدا شديدا لاستقبالها مسؤولين صهاينة للمرة الأولى في الإعلام العربي، إلا إنها في كل مرة من هذه المرات لقنت من يحضر من المسؤولين والإعلاميين الصهاينة على شاشتها دروسا مريرة ومحرجة بتلقي أسئلة لا يستطيع صهيوني واحد الرد عليها، إلى الحد الذي أجبر كل إسرائيلي على الحذر من الظهور على شاشة الجزيرة بل والتملص من ذلك.

إن ما يثير الاهتمام والإعجاب والدهشة في آن واحد في مسألة قناة الجزيرة وكذلك قطر ومشاكلها المزمنة في هذه المنطقة الملتهبة، التي يُفترض أن أمر الحريات الإعلامية آخر ما يجب أن تكرس وقتها له، هو أنها تقدم لنا جميعا عدة دروس أساسية هامة في الاستراتيجيا وإدارة الصراعات، ولعل الفيلسوف الصيني صن تزو قد أشار إلى بعض هذه الدروس المعقدة والمريرة أحيانا، ومنها:

  • مهما فعلت، لا تحشر عدوك في الزاوية: عندما شعرت قطر بعد سنة 1992 أنها تتعرض لضغوط لا قبل لها بها وأنها ستواجه مصيرها بنفسها دون عون يذكر، أقدمت على إجراءاتها الانتحارية (الكاميكازية). والمدهش أنها نجت بأعجوبة ونجحت بإبعاد الضغوط، ولو مؤقتا.

  • لا تستصغر الصغير ولا تستكبر الكبير: المسألة ليست بالحجم أو المساحة أو العدد، بل بالذكاء والبراعة والحصافة والمرونة المناسبة والوحدة والصلابة عند الملمات والشدائد.

  • كما أن الحاجة أم الاختراع، فإن الأزمات تستحضر الإبداع والحلول المبتكرة والنشاط المفرط: شهدنا هذا في أزمات قطر المتتالية وكيفية إدارتها لخلاياها ولجانها في الأزمة، ومنها اللجنة الإعلامة وعلى رأسها قناة الجزيرة.

  • لا تُهدِ خصمك أخطاء استراتيجية يستثمرها لصالحه: ربما أداء قطر وقناتها الجزيرة لم يكن بذلك المستوى البارع أو العالي جدا أو، غير أن استثمارها لأخطاء خصومها القاتلة جعلها تستفيد أيما استفادة، لاسيما في المسألة التي أصبحت تجيدها وتبرع بها: التخلص من الضغوط الوجودية.

ثمّة من يكره قطر والجزيرة ويشعر بالغيرة والاستصغار لهذا الكيان أو كما يصفه د. عبد الله النفيسي إحدى “الشظايا الخليجية”، وهناك من يحبها ويؤيدها. لكن لا هذا ولا ذاك يفسر أسباب هذا المآل الذي وجدت قطر ومن يقاطعها أو يحاصرها أنفسهم يواجهونه بما يشكّل ربما أكبر أزمة لا تهدد وجود قطر وحسب، بل مصير منطقة الخليج العربي بأسرها. فجذور الإشكال عميقة وضاربة أطنابها في صميم التسوية التي أنشأتها بريطانيا بحلول سنة 1922. وظني بالجزيرة وقطر وأطراف المشكلة أنهم جميعا ليسوا سوى مظاهر وواجهة لقضية تمس الأمة ومصيرها ولا يمتلك الناس فيها رفاهية التجاهل أو بحبوحة المماطلة، بل لابد من الإخلاص بوضع الحلول والصدق فيها، وإلا هو الضياع المبين.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s