بيروت: حلم معلق و”شلخه” – ترجمة الفيلم اللبناني الكويتي (ترويقة في بيروت) Breakfast in Beirut

تحلق بنا رياح الترجمة المرئية لنحط بأرض جديدة لعمل يمزج بين الواقعية التسجيلية والرؤية السينمائية المعاصرة. وقد أثار هذا العمل ردود فعل واسعة وقت عرضه، كما أحدث جدلا وآراء متباينة. ولعل هذا لوحده يشكل عنصر نجاح لأي عمل سينمائي أو وثائقي، بل لكل نتاج مجهود فكري وثقافي. وتتمثل نقطة الاهتمام بهكذا عمل، يتميّز بجرأته في تجاوز قيود ومطبات عديدة تواجه المبدع العربي، بل تكسرها وصولا إلى حرية فكرية مأمولة ومفقودة، عبر طرح القضية التي تشغل بال أبناء كل شعوبنا العربية: الهوية الضائعة والحقيقة المسلوبة.

438

ترويقة في بيروت

Breakfast In Beirut

قدّمت المخرجة فرح الزين الهاشم فيلمها “ترويقة في بيروت” سنة 2015، وعرضته في مهرجانات سينمائية عديدة في لبنان ومصر والولايات المتحدة وفرنسا وغيرها من المحافل السينمائية (أو السينمية كما يوصي بتعريبها دكتور مصطفى جواد). وأدت فرح الهاشم دور البطولة الشخصية في العمل بالإضافة لكتابتها للحوار والسيناريو وعمل المونتاج والإنتاج. وقد أشرفت على الفيلم إشرافا عاما والدتها الصحفية الفنية والناقدة والأديبة المخضرمة السيدة عواطف الزين، واشترك بتجسيد أدوار الفيلم مجموعة من الممثلين والفنانين اللبنانيين برز منهم بديع أبو شقرا وناتاشا شوفاني وزينة مكي وليال بدارو وكذلك محمود حجيج وعبد الرحيم العوجي. كما ظهر شرفيا بمقاطع تسجيلية في مقدمة الفيلم المخرج اللبناني الراحل مارون بغدادي الذي أهدي العمل باسمه.

رؤية تسجيلية-سينمائية

إن أسلوب تصوير هذا العمل يدخل من باب من الرؤية المعاصرة لمفهوم السينما. فقد أصبح جليا أن السينما الحديثة أخذت تعتمد على الأدوات التقنية المتوفرة لكل شخص. فالهواتف الذكية الحديثة (وخصوصا ذات المعالجات القوية والسريعة) أمست تؤدي دور معامل المونتاج والتصوير والتحميض الضخمة في العقود السالفة، وهي أدوات تتوفر لكل من لديه هذه الهواتف الشاملة التي انخفضت أسعارها وأصبحت بمتناول عموم الناس. بل إن السينما المعاصرة توجهت نحو أسلوب الكاميرا المحمولة اللاهثة وراء تعابير الممثلين والفاضحة لخبايا مشاعرهم الدفينة. وقد واجهتُ هذا الأسلوب عند ترجمتي للفيلم الروماني الحائز على سعفة كان الذهبية سنة 2007 “أربعة شهور وثلاثة أسابيع ويومان” لمخرجه كرستيان مونجيو. وهو أسلوب مثير للأعصاب إلى حد الإزعاج، وهو ما يستهدفه صانع الفيلم تحقيقا لمنظوره السينمائي.

ومن هذا المنطلق، تبنت مخرجة العمل أسلوب الكاميرا المحمولة التي تركز على تعبير الوجه ولا تستر أي تقطيبة أو ابتسامة أو شكل أو إيماءة أو حتى غفلة وشرود يقع فيه الممثل أو الممثلة. هو بالقطع أسلوب مرهق للمثلين. وحسب معرفتي الضئيلة في تاريخ السينما، اشتهر المخرج السويدي الراحل إنغمار بيرغمان بهذه الطريقة التي يضغط بها على ممثليه ويستخرج منهم كل ما هو دفين فيهم استهدافا للتعبير الأمثل عن الشخصية. ونرى ذلك مثلا في فيلمه العميق “القناع” Persona

على أن فرح الهاشم نقلت هذه الخاصية الدرامية إلى المنظور التوثيقي، وإن مال إلى الجانب الشخصي الذاتي، لكنه توجه لا يخلو من الفطنة والغائية. هو ليس أسلوبا جرى اختياره بمحض الصدفة بل يظهر جليا أن ظروف العمل وخلفياته والتأثيرات المحيطة به جعلت ألا مندوحة عن تبنيه والعمل من خلاله. وقد أظهرت هذه الكاميرا كما متدفقا من مشاعر الغضب والكبت والرغبة المكبوتة بإطلاق صرخة جامحة، لكنها -وللأسف- لا تنطلق. فالعمل يغلب عليه الجانب الأنثوي، وعندما تصرخ المرأة فإن المعاني تتمدد طولا وعرضا. لكن الجانب الروائي يمسك بلجام الرغبة ولا يسمح لها للتحليق بقول ما يجب قوله، فتنقلب المعادلة لتغدو بقدرة قادر: قول لا يجب أن يُقال. نرى هذا في عيون الإحباط التي تهيمن على أبصار المتحدثين الزائغة في اللا شيء. وفي أصواتهم المبحوحة بكبت لا يجد بصيصا للانفجار. فالصوت كذلك يلجأ إلى منح المتحدث مساحته التي يشعر بدرجتها، فهو صوت هامس مكلوم (كما في بعض حوارات أبو شقرا) وهو زاعق حانق (كما في بعض حوارات ناتاشا) وما بين الدرجتين نكاد نستشعر الاختناق والغصة.

03qpt949
ناتاشا شوفاني (يمينا) وفرح الهاشم بحثا عن ترويقة

عن الموسيقى التصويرية، لجأت المخرجة إلى موسيقى أصلية لحنها زياد أحمدي. واتسمت بانعكاس الحالة الشعورية للعمل. فنلمح فيها لحن الصوت المتكسر المكبوت أحيانا. وهذا يعبر تعبيرا غير مباشر عن “الحلم المعلق” الذي يراود هاجس بطلة العمل، والذي يجسد معنى الفيلم وجوهره. ولا يفوتني ذلك التوظيف الجميل في آخر الفيلم لصوت الموسيقى عند عبور قارب الكاميرا صخرة الروشة التي تشتهر بها الشواطئ اللبنانية منذ الأزل، حيث تكسر صوت الموسيقى وتحشرج، وكأننا بالكاميرا تبكي وتتنهد مع ظهور غبش وداعي مقصود بالألوان. أما عندما تريد المتحدثة العودة للوراء، فإن الكاميرا تعود معها بالزمن بلقطة لا يعوزها الذكاء في نهاية الفيلم.

screenshot2016-12-04at3-17-02pm
عواطف الزين في ترويقة في بيروت

أما الجانب التمثيلي للفيلم، فتباينت وتيرته حسب إيقاع كل مشهد على حدة. فأحيانا نرى حدة وانطلاقا وأحيانا أخرى نشعر بانخفاض وهدوء. بعض هذه التموّجات والتغيّرات مبرر ومفهوم وبعضها غير واضح للمتفرج. الواضح لا يحتاج لإشارة ويستحسن أن يقيّمه المشاهد بلا توجيه. لكن الغامض لا يشكل بالضرورة عاملا سلبيا بالأداء التمثيلي أو السيناريو المرسوم لكل شخصية، لكنه برأيي تطلب إجلاء إكثر للغموض. فمثلا لا نعرف على وجه التحديد سبب فشل قصة حب زينة مكي في الفيلم (فضلا عن إننا لا نعرف إن كانت قصة حبها هذه حقيقية أم خيالية، لكن هذا لايهم) لاسيما إن مشهدها المؤثر أخذ حيزا زمنيا لا بأس به، فهل هي قصة حب خيالية تعبر عن ذات الحلم المعلق أيضا؟ ثم أن بديع أبو شقرا ظهر مسترخيا ومتأملا في بعض المشاهد بطريقة يغلب عليها المبالغة، كما يشقّ علينا فهم شعوره بالراحة عند مقابلة المخرجة، وأنها “أنقذته” كما يقول عندما اتصلت به، سوى أن لنا أن نفسر ذلك أنها نجحت ربما بإخراجه من حالة توهان الهوية التي يشعران بها معا. فربما تمثل هذه النماذج نقاط استفهام تخيّم على نمطية تمثيل العمل. بيد أن للمشاهد أن يتفهم الدافع لذلك والذي يبرز من خلال تبني الطريقة التلقائية للسيناريو والحوار، وهو أسلوب رأيناه في بعض انتاجات السينما الهوليودية الجادة. ولست متأكدا إن كان المخرج المميز إليخاندرو جونزاليز إيناريتو  قد تبنى هذا النمط في فيلمه الممتع Birdman: The Unexpected Virtue of Ignorance حيث ظهر الحوار تلقائيا بالرغم من تعقيد الحبكة والنزعة الشعورية الخيالية لهذا النجم السينمائي البائد الذي قرر دون وعي اقتحام المسرح وغزو برودواي.

ظهرت مشكلة أخرى في العمل وبرزت في لغة الحوار. وأرى أن صاحب أي عمل فني لا بد أن يسأل نفسه السؤال المحوري: ما هو السوق أو الوسط الذي أستهدفه؟ فإن كان العمل يستهدف النخبة المثقفة في لبنان تحديدا، فلغة الفيلم الثنائية بين الإنجليزية والعربية تلبي الحاجة. لكن إذا اتسعت دائرة الاستهداف نحو المنطقة العربية عموما وشعبيا يصبح استخدام أسلوب اللغة الثنائية إشكالية في حد ذاتها. ومن نافلة القول إن اللغة في أي حوار تمسي ذات وظيفة درامية أو ثقافية مرسومة ويجب أن يستخدمها صانع العمل بكل حصافة وحساسية، حتى وإن اتسم عمله بالتلقائية والعفوية المحبوكة. فهذا عامل حاسم لنجاح أي عمل سينمائي ووثائقي أو فشله. وهو ما يؤدي لضرورة الحديث عن ترجمة العمل.

ترجمة الترويقة

فيلم “ترويقة في بيروت” -وبالمناسبة يُقصد بالترويقة إفطار صباحي أو وجبة قبيل منتصف الظهيرة- يأتي بحوار عربي بلهجة لبنانية. لكن حوارات كثيرة جرت باللغة الإنجليزية، لاسيما تلك التي تقولها الحسناء اللبنانية ناتاشا. وعندما طُلب مني ترجمة هذه الحوارات قيل لي إنها حوارات قليلة، لكن تبين أن هذه الحوارات الإنجليزية تقترب أو تزيد مما نسبته 40 % وتطلب أيضا ترجمته ترجمة سماعية حيث يتحتم عمل ملف نصي وترجمة ما يقال من حوار ثم إجراء مزامنة توقيتية لسطور وتيترات الحوار الكثيرة. ويبدو أن الثقافة اللبنانية حيث الاعتياد على استخدام اللغة الثنائية بالكلام هيمنت على فكرة الفيلم. وربما يعد هذا معيقا لانتشار الفيلم خارج الأجواء النخبوية اللبنانية أو البلدان العربية. وبما أن الفيلم من إنتاج 2015 فربما الصدفة لوحدها هي ما سمح بترجمة هذه الأجزاء الإنجليزية الموسعة والمحورية من الحوار، إلا إذا كان نشر الفيلم جماهيريا وشعبيا لم يدر بإذهان صنّاعه، وهذا غير منطقي لأن كل مخرج مهما  بلغ عمله من التعقيد والعمق الفلسفي يتمنى أن ينتشر فيلمه شعبيا ويتداوله الناس إيجابا أو سلبا، واسألوا في ذلك المخرج السوفييتي الراحل أندريه تاركوفسكي وأفلامه المرآة والتضحية التي خرجت منهما أضرب أخماسا في أسداس، غير أن بعضهم عزّوني قائلين “كفتك المحاولة شرفا”.

الحوار يحتوي بعض المفردات اللهجوية اللبنانية الطريفة، كقول بديع أبو شقرا “شلخه” عند سؤاله كيف تتخيل بيروت. وما زاد الطرفة أن هذه الكلمة يبدو أنها لم تُفهم بمعناها الحقيقي بالرغم من ترجمتها للإنجليزية Hot Chick التي هي عبارة بدورها استشكلت على كثيرين، مما اضطرني لترجمة معناها العربي العام ألا وهو “امرأة جميلة” الأطرف أنني عندما سألت الأستاذة عواطف الزين عن رأيها في هذا اللغز “الشلخي” -إن جاز التعبير- ردت ضاحكة ((شو ما لهن؟ يعني “مُزة” بالمصري)) 😆

تفضلت المخرجة فرح الهاشم بمراجعة الترجمة بنفسها، ولم تعدل سوى سطرين شعرت أن تعديلهما سيحسن نص الترجمة، وهو ما كان. أما عن نشر الترجمة، فسأعلقه لحين نشر الفيلم نفسه على الشبكة العنكبوتية وذلك بالاتفاق مع المخرجة وصنّاع الفيلم.

632687_5665465465d_main_new
فرح الهاشم متحدثة عن “ترويقة في بيروت” في السفارة المصرية في الكويت

ضياع الهوية وسلب الحقيقة

يعرض الفيلم قضية شائكة في حد ذاتها. فمن خلال رؤية ذاتية عفوية (كما يبدو عليه العمل ظاهريا) يتوغل صانعوه إلى أسئلة معقدة وربما تصل لدرجة المصيرية. فالإنسان العربي يعاني من إشكالية حرية الانتماء، لقد حُكم عليه بهذه القوقعة المصطنعة التي لا يستطيع الفكاك منها قيد أنملة. فهو، على سبيل المثال، مغربي وإن أصبح جزائريا فالويل والثبور وعظائم الأمور. وهو يمني وإن غدا قطريا أو بحرينيا فقد حكم عليه بالضياع والتيه. وهو سوداني فإن أمسى ليبيا أو موريتانيا فقد جنى على نفسه. وهكذا دواليك، ممنوع على هذا الإنسان التمتع باختيار متعدد لجنسيته التي أضحت قالبا أحاديا للهوية وليس له أن يعترض عليه أو حتى يمتعض أو أن يصرخ بالآه المكبوتة، وإلا فهو خائن مرتزق عميل، وإلى ما هنالك من هذه التهم المعلبة. أما الواقع الذي يفرض نفسه على واقع العرب، ولا يهرب منه إلا كل من هو مشكوك في قواه العقلية والشعورية والنفسية، أنهم جميعا يعيشون في بقعة من الأرض تمتد من المحيط الأطلسي وحتى الخليج العربي (وقيل إن تواجد العرب يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك شرقا وصولا إلى الصين وبحور جنوب شرق آسيا وجزرها المتناثرة) ويتحدثون لغة واحدة ولهم هوية دينية وثقافية وحضارية موحدة وتاريخ تعايشي واحد كما أنهم بجميع أديانهم وطوائفهم يتشاركون بعادات وتقاليد شديدة التقارب. أما هذا التفتيت المصطنع فلا مستقبل له ويأتي كنتيجة أحادية للحرب العالمية الأولى التي مانزال نعاني من آثارها حتى اللحظة.

إن قضية الهوية ومشكلاتها تلقي بظلالها على جميع الأقطار العربية، وذلك نظرا لحتمية وحدة المنطقة وتاريخها المشترك. وإذ تبرز المفارقة التاريخية الكبرى في توحد الأمم الأوروبية المتطاحنة قرونا طويلة، وقدرة الإنسان الأوروبي على التمتع بمزايا دولة أوروبية وتوحيد جنسيتها والقضاء على هذه المشكلة قضاء نهائيا، فإن التناقض التاريخي الذي يثقل كاهل الإنسان العربي المتفرد بأدوات الوحدة أصلا يجعل من طرح السؤال التالي فارضا لنفسه: متى نحتضن الحلم المعلق؟

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s