كان صديقنا الأخ المهندس أحمد محمد قد أشار بمشاركة في صفحته الفيسبوكية المفعمة بالأفكار والقراءات الجيدة إلى كتاب “الدولة المستحيلة:الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي” للدكتور وائل حلاق. وهو من الكتب والبحوث الهامة وتناقش فكرة مثيرة للجدل دائما. وحاولت من جانبي هنا استعراض ردود مبدئية ونقاط استدراكية مبكرة للكتاب الذي يتطلب قراءة أشمل، لكن لا أرى بأسا من وضع هذه النقاط البسيطة علّها تساعدنا في النظر للكتاب من منظوار متوازن ومنصف.
كنت قد أنزلتُ الكتاب ولم تسنح لي قراءته بدقة وسأحاول لاحقا تخصيص وقت لقراءته بمشيئة الله. لكن، ومن منظور مبدئي، لا أعلم إن كان المؤلف وائل حلاق يميّز بين فصول الدولة الإسلامية ومراحلها المختلفة. فمن المعلوم أن عصر حكم الرسول عليه الصلاة والسلام وصحابته الخلفاء الراشدين استمر زهاء الأربعين عاما، وتنقسم هذه الحقبة بطبيعتها إلى حكم الرسالة الإلهي المباشر بوجود الرسول (10 سنوات) ثم فترة الحكم البشري الراشد (30 سنة). أما الفترات والمراحل التي تلت ذلك فلها تصنيف خاص، وإن كان يحتمل التوصيف “الإسلامي”، لكنه لا يتمسك بالضرورة بكثير من قواعد الحكم الإسلامي وأصوله. فإذًا هذا يقودنا إلى طرح سؤالين مهمين:
1- ما هي أصول الحكم الإسلامي فيما يتعلق بسياسة الأمة وإدارة شؤونها العامة؟
2- لماذا لم تلتزم المراحل التالية لحقبة الخلفاء الراشدين (الأموية – العباسية – العثمانية) بقواعد وأصول الحكم الإسلامي، وما هي الدوافع والضغوط التي قادت إلى عدم تطبيق ذروة ما يدعو إليه الإسلام (الشورى وحق الأمة باختيار سياستها وقادتها)؟
فإذا كانت المسألة بحثا علميا موضوعيا محكما ودقيقا، فهل نجح المؤلف بسرد التقسيم الموضوعي والمنهجي لفهم ما هية “الحكم الإسلامي” ومنهجيته بدقة، أو تعامل مع الموضوع برمته “بالجملة” وصنف الحكم الإسلامي منذ صدر الإسلام وحتى سقوط الخلافة في القرن العشرين على أنه شيء ومركب واحد؟ لا أستطيع أن أجيب طبعا لعدم إنهائي الكتاب، ولعل أخونا المهندس أحمد يفيدنا بذلك.
غير أن مقدمة وائل حلاق ربما تحتوي على نقاط استفهام وألغاز محيرة، وأقول ربما حتى لا أظلم الرجل، فهل هو يقصدها أو أنها ضعف شاب فهم الترجمة للسياق، فخذ مثلا الاقتباسات التالية من سياق المقدمة:
– بداية، يذكر وائل حلاق الفقرة التالية: “حتى بداية القرن التاسع عشر، ولمدة إثني عشر قرنا قبل ذلك، كان قانون الإسلام الأخلاقي المعروف باسم الشريعة، ناجحا في التفاعل مع القانون المتعارف عليه والأعراف المحلية السائدة وغدا القوة القانونية والاخلاقية العليا التي تنظم شؤون كل من الدولة والمجتمع. وكان هذا “القانون” نموذجيا (Paradigmatic) بمعنى أن المجتمعات والسلالات التي حكمها قد قبلته كنظام مركزي للقواعد العامة والعليا. (…) ولكن مع بداية القرن التاسع عشر، وعلى يد الاستعمار الأوروبي، تفكك النظام الاقتصادي-الاجتماعي والسياسي الذي كانت تنظمه الشريعة هيكليا، أي أن الشريعة نفسها أُفرغت من مضمونها واقتصرت على تزويد تشريعات قوانين الأحوال الشخصية في الدولة الحديثة بالمادة الخام.” انتهى، ص 19.
بغض النظر عن التناقض الجلي في بداية هذه الفقرة -والذي ربما ينسف أساس الكتاب وفكرته الجوهرية- فإن المؤلف بعد ذلك يرد على نفسه بنفسه حول مشكلة انعدام القانون الإسلامي الشامل واضمحلاله بدءا من القرن التاسع عشر. فكيف منطقيا لأمة هُزمت منذ تلك الفترة وحتى الآن -وأهم شروط هزيمتها مازال قائما وتمثل بتقسيمها وعدم السماح بتطبيق قانونها الشامل تطبيقا حقيقيا في الحكم والسياسة- أن يوضع على ما تريده علامة “ممنوع” أو “مستحيل” وتحاسب على هذا المستحيل الذي هي مكبلة من خلاله، حسب إقرار المؤلف “بفرض المستعمر تفكيك منظومتها الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية”؟ فمازال المنتصر منتصرا والمهزوم مهزوما بناء على ما نراه على أرض الواقع الحالي ولم يتغير هذا الوقع حتى الآن، وإن كانت حالة الهلع الآني للغرب والذي يرمز له بـ”الإسلاموفوبيا” يشي بقرب زوال هذا الواقع الذي أضحى رخوا مهلهلا بعد أجواء الربيع العربي. فالانقسام العربي والإسلامي موجود والقانون الإسلامي ممنوع، فهل من المنطق أن يحكم المؤلف باستحالة فكرة كتابه في حين أن تمكين هذه الأمة من تطبيق حكمها لم يحدث بعد في العصر الحديث؟ وهل عنصر الاستحالة كامنة في هذا الحكم الإسلامي ودولته أو أن العنصر خارجي وليس كامنا فيه؟
فلنحاول تشبيه هذا الحال قدر المستطاع. لو قلنا لطالب متميز عليك أن تنجح بنسبة لا تقل عن 90 في المائة لأنك تحمل مؤهلات كبيرة وذكاء وشخصية وقدرات عالية، لكننا في الوقت ذاته حرمناه من الكتب والدفاتر والأقلام وتدوين الأفكار وكل ما من شأنه النجاح “على الحافة” كما يقال، فجاء الامتحان وفشل وسقط، وصرخنا بوجهه “يا فاشل ويا خايب ويا تعيس، عمرك ما راح تنجح، ونجاحك مستحيل ناهيك عن تفوقك!”
هذا بالضبط ما يفعله وائل حلاق وغيره من منظري الحداثة والليبرالية، فعلى الرغم من توشحهم بمظاهر الموضوعية والسعي للفهم الصحيح، لكنهم لا ينجحون عادة بالتخلي عن ذلك النمط الذي ساد القرن العشرين والذي يتمحور حول سؤال مفزع: ماذا لو استعاد المسلمون قوتهم وأعادوا بناء نظامهم الإسلامي بصيغة معاصرة سليمة؟ ما الذي سيحصل للنظام الذي اعتدنا عليه وما الذي سيحدث للعالم وكيف يكون شكله؟ هذا يعبر حالة هلع فكري متنامي لا سيما بعد اندلاع الربيع العربي، ويؤدي في أحيان كثيرة إلى عدم التمييز بين الإسلام وأحكامه وأصوله وبين الإسلاميين وحركاتهم وأحزابهم وسلوكياتهم. فأين الموضوعية في ذلك؟!
– في سياق آخر يقول حلاق: “فقد قبل المسلمون اليوم بمن فيهم كبار مفكريهم، بالدولة الحديث كأمر مفروغ منه وكحقيقة طبيعية. وافترضوا في أغلب الأحيان أن هذه الدولة لم تكن قائمة على مر تاريخهم الطويل فحسب، بل ساندتها أيضا سلطة القرآن نفسه. ذلك أن هؤلاء يرون أن القومية، وهي ظاهرة غير مسبوقة وفريدة كعنصر تكويني من مكونات الدولة الحديثة، “قد دشنت وأطلقت في العالم عبر الدستور الإسلامي المقدس” الذي وضع في المدينة المنورة منذ أربعة عشر قرنا“. انتهى،(ص 19، 20)
فأريد أن أفهم الآن، كيف أن “القومية” دشنها وأطلقها الدستور الإسلامي في المدينة المنورة؟ فعن أية قومية يتحدث حلاق؟ دستور (أو صحيفة) المدينة فصّل في مسائل إعطاء الحقوق وتحديد الواجبات الملقية على كل الجماعات والأقليات في دولة المدينة (بمعنى آخر مفهم المواطنة) لكنه لم يتحدث عن قومية بعينها أو توجه نحو صياغة قومية معينة. فهذه نقطة استفهام كبيرة.
ثمة نقطة جوهرية كذلك على المهتم بدراسة الفكر الإسلامي وواقعه ألا تفوته. يعاني كثير الإسلاميين حالة انفصام تاريخية عميقة. فهم يقرأون صفحات فجر الإسلام المتلألئة لكنهم يحاصرون أنفسهم داخلها، ولا يستشرفون كيفية تطبيق سليم ومعاصر للمبادئ التي أسسها الإسلام، ويفتقرون للمنظور الذي يوصلهم بسلام نحو شاطئ التجسيد الفعلي المفقود للمفاهيم الكبرى للإسلام وغاياته. هذا صحيح. لكن على المتأمل الليبرالي والمقتنع بمنطق المنهجية العلمانية أن يتعمق أكثر في المسألة ولا يستسلم لسطحية هذا المظهر. فهذا التخبط الذي يعاني منه معظم الإسلاميين الحركيين واقع بفعل الضغوط الخارجية الشرسة والتحركات الدؤوبة لضمان عدم نجاح أي مشروع إسلامي نهضوي حقيقي وقابل للانتشار والتمدد. وبالتالي الخروج من هذا النفق سيحدث لا محالة. وما على القارئ لتاريخ الحركات الفكرية الكبرى إلا تتبع فترات سقوطها ثم صعودها ونجاحها وتفوقها. والمنصف هو من يقص الحق من نفسه حتى لا يتفاجأ غدا بواقع لم يحسب له حساب.
في حوار لي مع الدكتور عبد الحميد مظهر قال هذا الأكاديمي المهتم بالقضايا السياسية المعاصرة والشؤون الإسلامية الفكرية، إن القوانين والأحكام في النهاية تطبق من خلال الفعل الإنساني والتحرك نحو التطبيق والتجسيد والتفعيل. أي أنه لا وجود لفكرة وتطبيقاتها إلا من خلال تحرك بشري فاعل نحو تكريسها وجعل العالم يقتنع بها أو يسلم بوجودها على الأقل. والعكس صحيح، فانعدام التحرك الإنساني نحو تفعيل فكرة (قانون – أحكام – فلسفات – اعتقادات – مذاهب – شرائع… إلخ) يجعلها تتجمد وتخمل وربما تطمر في أدراج التاريخ. وهذا برأيي منظور متوازن للأمور لأنه ينبني على عامل حاسم تاريخ البشرية جمعاء، ألا وهو عامل سنن الله الكونية.
لعلي أردف مقالي هذا بمقال أشمل بعد قراءة الكتاب وتدوين ملاحظات أخرى فيه.