بسم الله الرحمن الرحيم
قدم الروائي والأديب العربي يوسف هداي ميس الشمري روايته (( أصفاد من ورق )) التي نشرتها ورقيا دار نشر تموز سنة 2013. وأنشر هنا هذه الرواية إليكترونيا للقارئ العربي بعد الاتفاق والتنسيق مع مؤلف الرواية.

يوسف هداي ميس
الرواية تتحدث عن قضية البدون ومسألة اغتراب الهوية عبر سرد قصة إنسانية بأسلوب إبداعي خلاب ومميز. واللافت أن الرواية تتحدث عن نفسها بوجهها الفني والرمزي، وأحث القارئ العربي على قراءتها ثم قياس المدى الذي يشعربه من مأساة الاغتراب من ذروة قصة الرواية وأحداثها ليتأمل ذلك الرابط الذي يصل قضايا الأمة العربية بعضها ببعض.
يمكن تحميل الرواية أو قراءتها (أونلاين) عبر هذا الرابط
من هنا
كما يمكن قراءة تحليل نقدي بليغ كتبه الناقد علي حسين الفواز للرواية
من هنا
والقصة باختصار تدور حول شخصية فهد فرحان والأحداث الرئيسة التي عاشها كبدون منذ منتصف الثمانينيات إلى منتصف التسعينيات بعد ترحيله من الكويت إلى العراق إثر حرب 1991.
وحتى لا أضطر لأخذ مساحة من المقال لإعادة شرح موضوع البدون أو “عديمي الجنسية” كما تصفهم منظمة الأمم المتحدة، يرجى قراءة هذا التقرير في موقع الجزيرة
من هنا
أو مقال موسوعة الويكيبيديا
من هنا
مع ضرورة الإشارة إلى أن مفهوم البدون العام يشمل المشكلة في الكويت والسعودية وقطر والإمارات. أما في الكويت فتتركز قضية البدون ويتسلط عليها الضوء أكثر من غيرها وذلك لتداعيات تاريخية وسياسية واقتصادية عديدة واجهتها في هذا البلد تحديدا. وأحداث الرواية وشخصياتها هم من بدون الكويت بطبيعة الحال.
مكان الأصفاد
“لم تدم علاقتي به سوى شهرين، ولكن للمكان الذي ضمنا سوية أرض خصبة تنمو بها أخلص الصداقات، ترويها دموع أصحابها حينا وتغذيها آهاتهم اللاهبة حينا آخر.”
هكذا تبتدئ الرواية وهكذا تنتهي. السجن والمقبرة. هما مكانان يحملان المعنى النهائي للإنسان ومصيره الذي بلا شك لا يتوقف بالموت بل يستمر إلى الوجهة التي أرادها له الخالق سبحانه وتعالى. ولهذين المكانين صلة فعليه بموقع حدث الرواية الأساسي. هي منطقة سميت بـ”الصليبية” وأسموها هكذا لأن فيها ماء قليل الملوحة يطلق عليه أهل البلاد ماءً صليبيًا يستخدم للري والزراعة. والصليبية كما سنرى في الخارطة منطقة زراعية كبيرة في الكويت وتحتوي على مصانع ألبان وتربية أبقار كما أن فيها عزبا خضراء خاصة الملكية
لكن الصليبية التي يقصدها المؤلف هي المساكن الشعبية التي بُنيت قبيل انقضاء العقد السابع من القرن العشرين، وهي التي أحيطت بلون أحمر بهذه الخارطة الجوجلية. لكن لنقترب أكثر حتى نرى هذه المنطقة الشعبية بوضوح
إذًا فهي منطقة سكنية شعبية مقسمة إلى عشر قطع (مع استثناء قطعة 4 لعدم بناء مساكن فيها). وكما تظهر الصورة توجد ثلاث قطع سكنية في شمال المنطفة، وست قطع متواجدة جنوبا وجنوب شرق بشكل مائل.
أما بطل الرواية وكذلك كاتب هذا المقال فعاشا في شمال المنطقة، وهنا سنقرّب الصورة شمالا
القطع السكنية الثلاث شمال الصليبية هي حسب الصورة من اليمين: 3 و 2 و 1. ويبدو أن بطل الرواية سكن في قطعة 1 يسار الخارطة، أما كاتب المقال فسكن في قطعة 3.
لعل رواية “أصفاد من ورق” تعد أول رواية تصدر وتطبع ورقيا ويكون مركز قصتها هذه المنطقة المنسيّة وشبه المجهولة حتى في الذاكرة الأدبية المحلية. فمن هم الذين يقطنونها ولماذا هي منسية ومهملة من الذاكرة؟
تبدو الصور الملتقطة لبيوت ومنازل بيضاء اللون، لكنه ليس سوى مظهر مخادع لواقع معاكس. فهذه المنازل تتغطى بألواح صفيحية يغلب عليها اللون الأبيض (كيربي) وذلك لاتقاء المطر شتاء وأشعة الشمس الصهداء صيفا، لكن لون هذه البيوت الأصلي يغلب عليه الأحمر.
هكذا وجدتُ منازل منطقة الصليبية حين سكنتها أوائل سنة 1979 قادما من بيوت خشبية وصفيحية عشوائية تناثرت في بعض مناطق الكويت القديمة. بيت شعبي، يوجد في أوله ديوان أو مجلس الرجال، وأمامه حوش صغير لا باب خارجي له، بل مفتوح على مصراعيه وللعابر أن يرى الحوش والديوانية وأن يدخل دون أن يطرق شيئا لعدم وجود باب خارجي أصلا. الديوان مساحته تقترب من 6x 4 كما أن من صمم المنطقة لم يفكر بوضع حمام خارجي للرجال (غريب). ثم في وسط الحوش الخارجي يوجد باب يؤدي إلى ردهة صغيرة تطل على حوش أكبر نسبيا يحتوى ثلاث غرف فقط وحماما ومطبخا، وكل غرفة مساحتها تقريبا 4×3.6 والحوش طبعا مفتوح السقف ولا شيء يغطيه. وتمثلت المشكلة بأن هذه البيوت متراصة الصفوف ولا حاجز بين كل بيت وبيت، فكل ما يجري لجيرانك الملاصقين لك تسمعه بوضوح. كما أن هذا الوضع ظرف ممتاز لكل لص له أن يتسلق بسهولة نحو السطح وانتقاء البيت الذي ينزل عليه ليسرق ويسطو كيفما يشاء. أتحدث هنا عن الوضع الذي وجده سكان الصليبية وتورطوا فيه. فحتى مناطق الصفيح العشوائية كانت بيوتها -على سوئها- غير متصلة بلا حواجز أو مسافة بين البيت والآخر. فلم تمر بضع سنين قليلة إلا وكان معظم الناس قد سقفوا أحواش بيوتهم الداخلية على الأقل سترا للحال على الرغم من التكاليف الباهظة لهذا الترميم الضروري على أولئك القوم البسطاء! ولا يتذكر وصفي هذا لبداية الصليبية إلا أوائل من سكنها، فقد تغيرت هذه البيوت التي أضحت كعلب السردين تغيرا كبيرا، بل وأضطر بعض قاطني المنطقة لبناء غرف صفيحية في السطوح لتشكل شيئا يشبه شققا وطوابق علوية إن جاز الوصف.
سكن منطقة الصليبية فئات اجتماعية متنوعة ومتعددة. غير أن جلهم كان ممن سكن منازل الصفيح العشوائية (العشيش) حتى نهاية السبعينيات. وكان أغلبهم ممن عمل عسكريا سواء في وزارة الدفاع أو وزارة الداخلية. وأيضا هناك أعداد من الموظفين والمهنيين، وقد خصصت وزارة الإسكان نسبة محددة للمطللقات والأرامل الكويتيات وأبنائهن. أما النسيج الاجتماعي للمنطقة فيغلب عليه الطابع غير الكويتي، إذ كانت الأغلبية العظمى لفئة ما يطلق عليهم “البدون” وخصوصا قبل فترة الغزو العراقي للكويت سنة 1990. وهي الثيمة الرئيسة لرواية أصفاد من ورق.
قضيتُ في الصليبية ربع قرن من الزمان من عمري ولم أتركها سوى سنة 2004، ولي فيها ذكريات كثيرة وطويلة. فمنها انطلقت بسنين الدراسة خارج الصليبية نحو منطقة حولي يوميا، ومنها أكملت تعليمي الجامعي، وفيها تعرفت على أصدقاء العمر، وفيها تزوجت وفيها أنجبت، وفيها ضحكت وفيها بكيت. لم يكن هذا المشوار سهلا على شخص جاءها مصابا بالإعاقة والشلل الرباعي، لكنه حتمي ولا مناص منه، فنحن لا نختار أقدارنا. فأحتضنتني هذه المنطقة وشعرت بدفئها، وهي منطقة لا تقسو على أبنائها كما هم يقسون عليها. فليس ذنبها أنها منطقة ذات أوضاع سيئة، لكن أبناءها يذنبون حين يشعرون بالعار منها ويتجنبون ذكر أنهم من ساكنيها حينما يجتمعون مع أبناء المناطق الأخرى التي لا يعرفونها.
في بداية التسعينيات، هاجرت أعداد غير قليلة من البدون، وتوقعنا أن تتحسن أحوال من ظل في البلاد منهم، لكن خاب ظننا. وعلى الرغم من أنني لم أكن “بدونًا” لكنني أتأثر بتغير أحوالهم وسوء ظروفهم، ففيهم الأصدقاء والرفاق والأقارب. ولا أعلم كيف سارت عجلة الزمن وسط سوء أحوال التسعينيات على البدون في هذه المنطقة التي حكمت بالحديد والنار والأحكام العرفية وشبه العرفية غير المعلنة، فالدخول للمنطقة بعد الساعة الثانية عشر بمنتصف الليل لا يتم إلا بشق الأنفس وبالمرور على نقطة تفتيش تطلب أوراق الداخلين والخارجين بداع أو بلا داع. أتذكر موقفا طريفا مع صديق:
-
يا فلان، ألا تصاحبني لمنطقة سلوى حيث خيمة مسائية يقيمها أصدقاء في الجامعة؟ وأنا لا أدل كثيرا متاهات تلك المنطقة وطريق العودة منها.
-
لا مانع عندي، فلنتوكل على الله.
فنذهب سوية ونقضي ليلة طريفة وممتعة، وما إن حانت الساعة 11 و45 دقيقة مساء إلا وقررنا العودة للصليبية. ومع اقترابنا منها ونحن برفقة سائقي السريلانكي وصاحبي (البدون) يركب في الإمام ليوجه السائق، لاحظنا أن هناك نقطة تفتيش في مفترق الطرق المؤدي لقطعتنا. كان صاحبي لا يصغرني سوى بعام أو عامين واتسم خفيف الحركة وسرعة البديهة، وطبعا لم يكن بحوزته أية إثباتات.
فقفز من مقعد السيارة الإمامي إلى الخلف معي، وقال
-
فيصل، ليس أمامنا سوى حل واحد، أن أدعى الشلل لنصبح معوقين إثنين لا واحد!
-
يا بن الحلال لا تقلق، لن يجرؤوا على عمل شيء وأنا معك
-
لن يجرؤوا؟ نسيت أن لي صولات وجولات مع “كبساتهم” الليلية؟!
فيقترب السائق من نقطة التفتيش، فيطلب منه دفتر السيارة والرخصة بجفاء
-
وأنت بالخلف، هويتك؟
-
حاضر، لحظة
رددتُ عليه، لكن صاحبي الذي تكوّر كالقنفذ وتصنع إعوجاجا في يديه ورجليه لينسلخ كمخلوق لا يمت بصلة للبشرية أطلق صيحات وأنات مقيتة
-
أواه، أواه، أواه!
-
ما هذا؟ معاقان؟ ما الذي أتى بكما في منتصف الليل؟ يالله يالله، خلهم يمشون