لستُ من المكثرين بقراءة الفن الروائي، حيث تتركز قراءاتي غالبا في التاريخ والسياسة والدين. إلا إنني وجدت عملا روائيا مميزا يجمع ويمزج معظم هذه الاتجاهات. الطريف في الأمر -قبل شرح القصة- أنني ابتعتُ هذا الكتاب عام 1998 أو 1999 تقريبا، وذكرت ما اعتقدت أنه يمثل أهمية للكتاب لبعض الأصدقاء، وبما أننا في الكويت نعاني من عقدة التلقي الثقافي التي تجعل المرء يشعر بالنقص والتضاؤل أمام المعتاد على فضيلة القراءة، فإن أحدهم طلب مني استعارة الكتاب بعد ملاحظته حماستي لفكرته، فأخذه ولم يعده بعد ذلك. فأحبطتُ من هذا التصرف الأرعن ثم أخذتني الأيام ومطبات السنين إلى أن وقعت يدي على نسخة إليكترونية من الرواية السنة المنصرمة، فقررت أن أقرأ الرواية أثناء التحضير لانتقالي لمنزلي الجديد ومع عدم توفر انترنت يشغلني عن ذلك.
أما الرواية فهي للكاتب والروائي الفرنسي اللبناني الأصل أمين معلوف، وعنوانها (( ليون الأفريقي )) Léon L’Africain (أو كما هو معروف باسمه اللاتيني Leo Africanus)، ترجمة د. عفيف دمشقية وصدرت الرواية عام 1986 بينما صدرت نسختها المترجمة الأولى عام 1990، ونال عنها أمين معلوف جائزة لجنة الصداقة الفرنسية العربية. وتتحدث الرواية عن شخصية عربية هامة بيد أن غبار التاريخ العربي طمس معظم الذكريات عنها، وهو التاجر والرحالة والدبلوماسي محمد بن حسن الوزان وهو شخصية تاريخية حقيقية وألف كتابا هاما في القرون الوسطى عنوانه “وصف أفريقية”. وهذا الرجل ولد في الأوقات الصعبة من عمر الدويلات الأندلسية التي عاشت في شبه الجزيرة الإيبيرية (أسبانيا والبرتغال حاليا) بعد فتح/غزو المسلمين قبل هذه الفترة بثمانمائة سنة. وتركز الرواية على السنوات الأولى الـ25 من عمر هذه الشخصية التي انتمت لطبقة ميسورة الحال في الأندلس واضطرت للهجرة منها إلى بلاد المغرب بعد هجوم قوات الملك فرديناند والملكة إيزابيلا المتحالفة على بقايا الإمارات العربية الضعيفة والمبعثرة في البلاد. ويتضح من هذه الشخصية، التي تلقت تعليما علميا ودينيا عاليا، مدى الرغبة بالتعرف على آفاق مجهولة من العالم. فنرى تسجيلا لمظاهر الحياة وثقافاتها في مدن هامة كغرناطة وفاس وتومبكتو (أغنى مدن العالم آنذاك) والقاهرة وإسطنبول وروما. وعلى الرغم من أن الشخصية حقيقية وواقعية ومعروفة حتى الآن في المغرب، إلا أنه من غير المعلوم مدى الحقيقة المنصوصة في بعض التفاصيل الواردة بالرواية، حيث يمتزج التصوير التسجيلي بالإبداع القصصي، وربما هذا ما يمنح الرواية جزءا من رونقها الخاص. ولعل المقصود من الرواية بناء جسر ثقافي بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية المسيحية من خلال شخصية محمد الوزان الذي اختطفه قراصنة أوروبيون عند أحد الموانئ المصرية وأرسلوه إلى الفاتيكان لعناية البابا بجلالة قدره الذي كان يرغب باستثمار شخصية إسلامية واسعة الاطلاع لتكون وسيطا له عند القوة الكبرى الجديدة وهي الدولة العثمانية التي اكتسحت معظم قوات جنوب أوروبا وأصبحت على مشارف أواسطها. والحقيقة أن طريقة هذا الربط تعد مستغربة ومستنكرة في ذات الوقت، وهو ما واجهه المؤلف بصراحة (وإن بالغ فيه في نهاية الرواية) من خلال استخدام أشد ما يكرهه المسلم وهو “التقية”. فمؤرخو المغرب المعاصرون يؤكدون حتى اليوم أن الوزان، الذي خلع عليه البابا لقب “ليون الأفريقي”، لم يرتد عن الإسلام، وغرض استخدامه للتقية واضح وهو لحفظ نفسه أمام مختطفيه النصارى الذين ربما هددوه في حياته إن لم يتعاون وينفذ مآربهم. وعلى أية حال، عمل المؤلف على نقل الواقع الإسلامي في حياة الشخصية وتأثرها به (حيث وضع كثيرا من النصوص القرآنية والأحكام الشرعية في بداية الرواية) كما دوّن طقوس الحياة المسيحية وتعقيداتها ومشاكلها داخل الكنيسة الكاثوليكية. وتكمن المبالغة -حسب رأيي- أننا كمن نعيش مع شخصيتين يربطهما منطقيا رباط باهت وغير منطقي عند تبرير التغيّر في الشخصية، أو عند وضع تسلسل مقنع يجعلنا نتصور عقلانيا ذلك التحول في النقل بل حتى في اللغة التي يتحدث بها الوزان (ليون) عند نهايات الرواية (أي ما بين الواقع الإسلامي ونظيره المسيحي). لكن مجرد محاولة الجرأة في ربط الواقعين تعد تجربة تستحق النظر والثناء لأنها أشبه بالمغامرة المستحيلة.
يمكن لحضراتكم تنزيل الرواية من الرابط المرفق أدناه، كما يمكنكم مشاهدة برنامج وثائقي أنتجته البي بي سي باللغة العربية عن ليون الأفريقي أعده وقدمه بدر الدين الصائغ، ويركز على شخصية محمد الوزان (ليون الأفريقي) التاريخية ولا يشير لرواية أمين معلوف مطلقا..قراءة مفيدة.