بسم الله الرحمن الرحيم
أقدم لكم أيها الاخوة الكرام فيلما وثائقيا (بمناسبة الذكرى السنوية لإطلاق القنابل الذرية على هيروشيما وناجازاكي) نبتدأ به هذه السلسلة من المواضيع التي تناقش قضية ما تعرضت له اليابان من قصف لا إنساني بالقنابل الذرية لأول مرة بالتاريخ الانساني، وذلك بمناسبة حلول الذكرى الثالثة والستون (أي عند عمل هذا الموضوع عام 2008) لذلك الحدث المرعب والمخزي للبشرية جمعاء. وفي الحقيقة تراءت لي عناوين عديدة لكي أسمي بها هذه السلسة التي تتكون من ترجمات متتالية منتقاة لأعمال متعددة منها وثائقي ودرامي و(أنيمي) تسلط الضوء بمواضيع متفاوتة، فكان عنوان “العين العوراء” متجسدا أمامي لأننا أمام قوة ترى فقط ما يحق لها وتغض الأنظار عما يحق للآخرين. ثم تخيلت عنوان “الجريمة الكبرى” وهي بالفعل كذلك لأنها ترقى للإبادة الشاملة لأنه استخدام لسلاح تدمير شامل دون سابق انذار فأهلك الحرث والنسل. لكنني استقريت على عنوان “جريمة عصرية” لأن الجرائم الشاملة كثيرة في عصر ما بعد الثورة الصناعية لدرجة يصعب حصرها وتحديدها بجريمة حتى ولو كانت بمثل هذه البشاعة التي سنتطرق لها عبر هذه المواضيع.
جـريـمـة عـصـريـة (1-3)
في البداية أنصح الجميع ممن يرغب بالمعرفة والاطلاع الحقيقي والاستفادة من دروس وعبر التاريخ ألا يأخذ كل ما يرد بمثل هذه البرامج على محمل الصدق الكلي، ففضلا عن إيجازها وتبسيطها وتلخيصها لمجمل هذه الصراعات الكبرى مما لا يجعل منها سوى نظرة سريعة على ذلك الأمر الذي يحتاج لدراسات وبحوث شاملة ودقيقة موضوعية. فإن مثل هذه المواد والأفلام التسجيلية لا تقدم لنا إلا النظرة التي يريدنا الغرب أن ننظر للأمور بها، وهي رواية المنتصر ورؤيته التي تقتصر عليه ويريد تسويقها علينا مما يعود بنا إلى مسألة “العين العوراء” التي أشرنا لها أعلاه. لكننا إن استبعدنا أخذ الأمور على علاتها، يمكننا أن نجد بمثل هذه الوثائقيات مادة بالامكان بناء أفكار مفيدة وها بعض الإيجابيات التي تشكل لنا إنارة فكرية للوصول إلى إجابة منطقية ومقنعة لسؤال مهم، وهو لماذا حدث ما حدث؟ وما الذي أوصل الأمور بحيث تكون حياة آلاف مؤلفة بل ملايين من البشر لا تساوي شيئا ويمكن محوها كما تمحى كتابة “الطباشير” من على “السبورة”؟ لكن سيظل هذا التساؤل اللا استفهامي قائما وقد لا يمكن بأي حال من الاحوال امتلاك الاجابة عليه بل وحتى محاولة تفسيره ومناقشته.
خريطة توضح أماكن الصراع الرئيسية بحرب المحيط الهادئ ومواقع إنزال الحلفاء بها
يبدأ الفيلم الوثائقي بعرض الحالة العامة باليابان من شعور كاسح بالوطنية لدى الشعب الياباني خاصة بعد فترة العشرينيات وعند تولي الامبراطور هيروهيتو سدة العرش الامبراطوري وهو لم يتجاوز السابعة والعشرين من العمر خلفا لوالده الامبراطور (تايشو) الذي لم يعمّر بالحكم طويلا واتّهم بالجنون في آخر حياته. فيستمر الفيلم بعرض نماذج تشير لهذه الوطنية العارمة دون أن يحاول شرح أسباب هذا الأمر أو تفسيره حتى بشكل مبسط. والحقيقة أن لسيادة هذا الشعور سيادةً فاحشةً عوامل وأسباب عديدة من أهمها: خروج اليابان من حالة النظام الإقطاعي المهيمن على أوصال الدولة لا سيما بعد الحروب الأهلية، ومن ثم حركة الامبراطور مايجي الاصلاحية (وهذا الامبراطور المؤثر بتاريخ اليابان الحديث هو الجد المباشر للامبراطور هيروهيتو) في منتصف القرن التاسع عشر. فكانت عوامل تحديث الدولة واقتحام مجال التصنيع اقتحاماً مذهلاً، وترسيخ مركزية، الدولة إضافة إلى انتشار فكرة أن الامبراطور هو إله متجسّد وربطها بالعقيدة الدينية الأصلية لليابانيين Shinto وهي عقيدة وثنية تعتمد في أساسها على عبادة “الأرواح” ورُبطت كذلك ألوهية الامبراطور بالعقائد الأخرى الموجودة ضمن الواقع الياباني كالبوذية والكونفوشية. أدى هذا العامل إلى هيجان الشعب “وطنيا”. وبالاضافة إلى هذا السبب، ظهر أيضا خطر التمدد الشيوعي الماثل لليابان بجارها المتحفز شمالا “الاتحاد السوفييتي” لنشر أفكاره الاشتراكية وتصديرها خارج المحيط الأوروبي الشرقي والجنوب الآسيوي ليمتد للشرق الياباني، ويكفي أن نضرب مثالا واحدا ألا وهو اعتناق المخرج الياباني الراحل أكيرا كوروساوا للافكار الاشتراكية والنظرية الشيوعية ما قبل الخمسينات، وهو على أي حال نال جائزة الأوسكار بعد فيلمه “السوفييتي” Dersu Uzala ، وهذا مثال للتدليل فقط ليس إلا. كما نشير إلى أن عامل الوطنية-القومية ما زال ناشطا بالعالم أجمع وخاصة لدى الدول الكبرى والعظمى، مما لا يستثني اليابان من وقوعها بشر استفحال هذا الشعور استفحالاً طاغياً ومتغلغلاً إلى درجة أن هذه الفترة تسمى Ultra-Nationalism داخل اليابان وخارجها. ثم يسعى البرنامج بوضوح إلى تتبع التوسع الياباني غربا وخاصة في الصين وكوريا، ونجاح اليابان باستغلال المشاكل والثورات الداخلية في هذه البلدان لصالحها، والهدف من ذلك -وهذا ما لم يكلف نفسه البرنامج العناء لتقصيه- هو أمران: أولا، طرد الوجود الأوروبي في شرق آسيا وخاصة الأمريكان وبريطانيا وهولندا. وثانيا، محاولة الاستيلاء على منابع الموارد الطبيعية الموجودة في هذه الدول، لأن اليابان تفتقر لأي من تلك المصادر والثروات الطبيعية الكامنة وخاصة النفط الموجود في الهند الصينية (أندونيسيا وماليزيا حاليا) وسنغافورة مركز التجمع المالي لبريطانيا والغرب. وهو ما وقع ببداية الحرب وما تلى عملية (بيرل هاربر) الجريئة على الاسطول الحربي الأمريكي في هاواي لغرض القضاء على أي وجود بحري للاخيرة في المحيط الهاديء. ولكنهم بهذا أيقظوا القمقم الأمريكي النائم وجعلوه يندفع بقوة من جهتين بشكل صاعق، الجهة الأوروبية ضد ألمانيا، والجهة الآسيوية ضد اليابان التي كان توسيع الجبهات وبالاً عليها. وكما تقول سجلات الامبراطور هيروهيتو (موقع ويكيبديا) أنه “وبّخ وزير حربه علنا عندما لم يستطع انهاء المقاومة في الصين الشاسعة في غضون شهر، واحد فكيف لهم أن ينتصروا بالصراع في المحيط الهادئ بأكمله”. كما أن الفيلم الوثائقي لم يشرح نقطة مهمة ألا وهي الانقلاب المفاجئ بالموقف من تقدم وانتصارات متتالية للجيش الامبراطوري الياباني إلى تقهقر وهزائم سريعة جعلتهم لا يقدرون حتى على إدارة معركة دفاعية لدولتهم الأم. سوى أن البرنامج ذكر أن الجيش الامريكي نجح باختراق الشفرة السرية لاتصالات القيادة البحرية اليابانية قبل معركة جزيرة “ميدواي” عام 1942 التي فيما يبدو كانت حاسمة لقلب الموازين والسيطرة على الطريق المؤدي لليابان نفسها أي التوجه لقلب العدو ذاته عبر المحيط الهاديء والسيطرة على النقاط المركزية بهذا الطريق. وتشير السجلات (موقع ويكيبيديا) إلى أن هذه الاستراتيجية اتفق عليها زعماء كل من الولايات المتحدة وبريطانيا والصين في اعلان القاهرة 1943 بعد عقدهم قمة ثلاثية هناك آنئذ. (الزعماء الثلاثة كما بالصورة).
وتقتضي هذه الاستراتيجية العسكرية بالسيطرة على المواقع المهمة بالهاديء وتجنب الاصطدام المباشر بالاسطول الجوي الياباني -قدر الامكان- وذلك لغرض الوصول لأقرب موقع يمكن القاذفات الأمريكية العملاقة من الوصول للعمق الياباني وتعريض مدنها كلها لقصف هذه القاذفات، ومنها بطبيعة الحال القاذفة “سيئة الذكر” بي-52. وهذا ما حدث فعلا شيئا فشيئا بعد معارك طويلة ودموية في جزر المحيطين الهادئ والهندي، إلى أن اقترب الأمريكيون والحلفاء من هدفهم عندما سيطروا على جزر الماريانا التي تقع في الجنوب الغربي من اليابان، فأصبحت جميع المدن اليابانية في مرمى القاذفات الأمريكية العملاقة كما كان حال المدن الألمانية تقريبا. وعلى أية حال، فإن كارثة الحروب كبيرة ومكلفة بحد ذاتها لكن الكارثة الأكبر هو توريط المدنيين بها والتعمد في ذلك بغية فرض أهداف عسكرية، وهذا ما تعتبره كافة المواثيق والعهود الموقعة بين الأمم، خاصة اتفاقيات جنيف، محرما ومجرّما دوليا. ومن قبلها حينما بعث الله للبشرية رسالة الاسلام عبر الرسول والنبي المصطفى عليه أفضل الصلاة والسلام حينما أصدر أمره وقت الحروب ألا يُمس الأطفال والشيوخ والنساء بسوء وأن يكرموا الأسرى ويقاسموهم طعامهم وماءهم، بل تعدى الأمر بأن أمر المسلمين ألا يقطعوا حتى الشجر وألا يسعوا بالأرض فسادا. فإين العالم المتحضر والغرب المتشح برداء حقوق الانسان من هذه الاخلاقيات التي لن يبلغوها أبدا، وأين الثرى من الثريا! فعندما اقترب الامريكان من اليابان لم يرحموا أحدا ولا شيئا، ولم يدعوا لا طفلا ولا امرأة ولا كهلا ليس لهم ضلع بهذه الحرب يسلموا من نير بطشهم، بل تجاوزوا هذا الفعل القبيح حين فتحوا صفحة جديدة في تاريخ البشرية حين لم يكتفوا بتدمير الحاضر وأشخاصه بل فتكوا بالمستقبل وأمله، لأن القنابل الذرية مصيبتها لا تقف عند من تقتلهم حالا بل بمن تحاصرهم بالموت البطيء مستقبلا، وهؤلاء تعدادهم كان أكثر بكثير ممن قُتِلوا فورا بقنبلة هيروشيما (180 ألف قتيل) وقنبلة ناجازاكي (80 ألف قتيل). فالأمراض المجهولة التي انتشرت بعد القنبلة الذرية بسبب النشاط الاشعاعي الكثيف أدى إلى حالات متباينة من الموت السريع والموت البطيء والمرض المزمن الدائم التي كانت من سمات جريمة العصر هذه، لكننا سندع تفصيل هذا الأمر للموضوع القادم من هذه السلسلة بإذن الله.
الامبراطور الياباني المائة والرابع والعشرون – هيروهيتو
الامبراطور هيروهيتو بصورة نادرة وهو يلقي خطاب الاستسلام وحين “تحمل ما لايمكن تحمله”
كان من المدهش أن نعرف بالبرنامج أن الشعب الياباني لم يكن قد رأى أو سمع امبراطوره قبل هذا الاعلان الرسمي الذي وافق به ضمناً على الاستسلام للحلفاء. وهو أمر يصل لحد الخرافة السريالية. وكانت المفارقة أن الفترة التي تطلق على عهد هذا الامبراطور هي “فترة شوا” أي حقبة السلام المستنير. وهذا الامبراطور -وهذه من الأمور التي لم ترد في البرنامج أيضا- أنه اتهم بارتكاب جرائم حرب في الصين عبر اصداره أوامر مباشرة باطلاق الغازات الكيماوية والسامة، وهذا اتهام بطبيعة الحال خرج من رواية المنتصر ويجب ألا نقع بخطأ تصديقه بسذاجة. وما يدعونا لذلك هو أن الجنرال مكارثر لم يوافق على تقديمه للمحاكمة رغم المطالبات العديدة بالصين وكوريا والغرب، لأنه أراد أن يكون جامعاً للشمل الياباني مرة أخرى، خاصة أن البرنامج يشير إلى أن مكارثر تلقى كثيرا من الرسائل والخطابات من عموم الشعب الياباني ترجوه وتتوسل إليه أن يدع الامبراطور خارج المحاكمة ويضع فيها أي شخص آخر من الشعب، فإيقن مدى رمزية الامبراطور لهذا الشعب وتعلقهم به إلى حد العبادة. لكن مكارثر من جانب آخر أصر على إلغاء كل ما يشير إلى ألوهية Divinity الامبراطور في الدستور الجديد بأي شكل من الأشكال، وكان هذا من سخرية الأقدار بالفعل! تميز الامبراطور هيروهيتو بشعبيته الجارفة في قلوب اليابانيين، حتى فيما بعد الحرب، وتخليه عن مركزه الديني كـ”وريث لآلهة الشمس” ودأب على تقوية الصورة الخارجية لليابان ونجح بذلك نجاحا كبيرا، وترك الحكومات المحلية تدير البلد حسب النظام الديموقراطي، واشتهر باهتمامه الشخصي بعلم الأحياء البحرية ونشر عديدا من المؤلفات العلمية التي تبحث بهذا الصنف من المعارف واكتشف مخلوقات بحرية من فصائل أسماك متعددة. توفي الامبراطور هيروهيتو عام 1989 إثر اصابته بسرطان في البنكرياس وتولى سدة الحكم الامبراطوري من بعده ابنه ولي العهد الامبراطور الحالي أكيهيتو. لتنتهي بموته صفحة تاريخية مدهشة من سقوط اليابان عسكريا ونهوضها اقتصاديا.
مواقع المدينتين اليابانيتين المقصوفتين بالقنابل الذرية
الخلاصة التي أود طرحها هي أن معظم ما طرح ببرنامج حرب اليابان بالألوان هو لا يخرج عن كونه محاولة تبرير -بالألوان- لما تم ارتكابه من جريمة بحق البشرية في هيروشيما وناجازاكي عبر تقديم مواد ورسائل خاصة وحميمة بين الزوج وزوجته، وبين الابن وأمه، وبين الصديق وصديقه، لكي يظهروا مدى تطرف هذا الشعب وعنفه فلا ينفع معه سوى ما ارتكبه الغرب من جريمة نكراء. وهذه جريمة أخرى وهي سرقة ذاكرة شعب بأكمله ومحاولة تشويه واقعه عبر مسخ هذه الذاكرة. والعجيب أن هذه اللعبة يكررها علينا الغرب في وطننا العربي بقضيتنا المركزية فلسطين، عبر تعويم فكرة الارهاب والعنف العربي والفلسطيني وعبر جعل الأضحوكة التاريخية المسماة “اسرائيل” منارة للحرية والديمقراطية والسلام، والله أعلم إن كانوا يودون ضربنا نحن الآخرين بقنابل نووية وهايدروجينية أملاً منهم في أن نكف يوما عن المقاومة التي تقض مضاجعهم يوميا.
معلومات عن نسخة الفيلم:
اسم النسخة: Japan’s.War.in.Colour.DVDrip.XviD-NiX
المدة: ساعة و34 دقيقة
عدد الاسطوانات: واحدة
معدل الاطار: 25
* الفلم كاملا عبر اليوتيوب *
التنبيهات: جريمة عصرية (2-3): ذكرى مأساة هيروشيما عار على البشرية! ترجمة فيلم الأنيمي Barefoot Gen | faisal175·
التنبيهات: جريمة عصرية (3-3): (كوراساوا) يبكي ناجازاكي- ترجمة الفيلم الياباني Rhapsody In August | faisal175·