يدخل هذا العمل الموسوعي الضخم ضمن الكتب التي تستحق القراءة والتمعن والدراسة، لأنه يطرق باب السنن الكونية في التاريخ وولادة الحضارات العظمى. وكما يعلم القارئ الواعي أن لله سبحانه تعالى سننا وقوانين ثابتة لا تتغير في كل شيء، بدءا من الطبيعة ومرورا بحركة الكون وانتهاء بالإنسان نفسه. فإذا ركل أحدهم -على سبيل المثال- كرة نحو حائط، فسترتد نحوه بقوة مساوية لقوة ركلها، لكنها ستعاكسها في الإتجاه. فهذا من القوانين الفيزيائية البديهية التي من بين القوى المحركة في الأرض والمنظمة لها. وفي الاتجاه ذاته قانون الجاذبية. ومع أن مثل هذه القوانين الحركية الثابتة لا يطلق عليها -عادةً- مسمى “السنة”، إلا أنها تندرج ضمن هذا الإطار الذي يجعل الحياة في مجملها قائمة على الأرض ومنتظمة فيها.
على المنوال ذاته، ثمة قوانين كبرى تحرّك التاريخ والتعاطي البشري البيني وكيفية تنظيم السلوك الجماعي الإنساني. وتتصف هذه القوانين الحركية البشرية بالتركيب والتعقيد الشديد، كما أن الأمر يتطلب فترات ومدد طويلة لقراءات بياناتها وتحليل معطياتها ودراستها، وهي بالتالي ليست ذات معالم محددة وصلبة بل تميل إلى الظواهر المجرّدة التي يمكن ملاحظتها عبر التحليل الشمولي لحقبٍ وعصورٍ متعددة ومن خلال تصويب سلاح المقارنة النظرية الموضوعية.
ولعل من التناقضات الغريبة التي نواجهها في عصورنا المتأخرة أن المسلمين أصبحوا لا يقرأون سمات السنن الكونية وتطوراتها في عصورهم التي يعيشون فيها، مع أن مرجعهم الأعلى، القرآن الكريم، يسهب في ذكر أنماط ومتواليات سننية ثابتة لو اجتهدوا في فهم ترابطاتها وامتداداتها على التاريخ البشري لأمكن الوصول إلى إدراكات غير مسبوقة لكيفية تحرّك القوانين الاجتماعية والتاريخية في كل عصر. لكن من الجلي أن الانحطاط الثقافي الذي يعانيه المسلمون بدءا من أواخر عصر الدولة العباسية الثانية وظهور إمارات الطوائف في الأندلس قد أدّى بالمسلمين -طوعا أو كرها- إلى تسليم راية هذا البحث المضني إلى نظرائهم في الغرب الذي تطور تدريجيا بدءا من هذه الحقبة العريضة. على أن الفضل في بداية تلمس معالم دراسة السنن الاجتماعية في التاريخ يعود إلى العالم المعروف ابن خلدون الذي أراد أن يكتب كتابا موسوعيا اسماه “العبر، وديوان الخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” فكتب له مقدمة تقرب من ألف صفحة، هي التي اكتفى بها أهل الدراسة والفن بتخصيصها لما يُسمى “نظرية ابن خلدون” في المجتمعات. وهو طريق ومنهج يحتاج إلى الإكمال والمتابعة في العصور التي تلته إلى أن نصل لعصورنا القريبة، غير أن دراسات جادة ومتكاملة لتحقيق هذا المرام لم تظهر إلى النور.
وكتابنا الذي نعرضه هنا هو لا شك عمل موسوعي ضخم كتبه المؤرخ البريطاني المعروف آرنولد توينبي وهو بعنوان
A Study of History
وهو مؤلّف مكون 12 مجلدا كتبه توينبي على مراحل بدءا من سنة 1934 وانتهاءً بآخر مجلد صدر سنة 1961. وقد ترجم منه أربعة مجلدات د. فؤاد محمد شبل ترجمة راقية وتستحق الدراسة. ويتتبع عمل توينبي تطور 19 حضارة عالمية عبر تطبيق نموذج معياري على كلٍّ منها لدراسة مراحلها وأطوارها بدءا من النشوء فالنمو فأزمان المصاعب فيها ثم دولتها العالمية وأخيرا تفككها وانهيارها. وهو بذلك عمل يستحق الاهتمام والتأمل العميق.
أضع هنا روابط المجلدات الأربع التي ترجمها فؤاد شبل، مع توجيه شكر جزيل إلى الدكتور عبد الحميد مظهر الذي أشار للعمل بمشاركة فيسبوكية
وقد تحصلت على دراسة باللغة الإنجليزية لشرح الكتاب وتلخيص فكرته، ترجمتُ منها هذه الفقرات الخاصة بتفسير مفهوم قوانين التاريخ عند توينبي، أقدمها هنا إعمالا للفائدة
قوانين التاريخ
ملخص مختزل لكتاب [ مختصر دراسة للتاريخ ] للمؤرخ آرنولد توينبي
تحرير: إليزابيث تومبسون
ترجمة: فيصل كريم
تبرز الفرضية الأساسية لكتاب “مختصر دراسة للتاريخ” في أن الحضارات تنشأ وتنمو وتضعف ثم تتفكك طبقًا لسنّة ثابتة ومتكررة. لقد آمن توينبي أن الكون لم يُخلق خبط عشواء وبضرب من ضروب الفوضى بل يخضع لقوانين، وجادل بأن هذه القوانين هي مما يتحتم مراقبته وملاحظته في التاريخ البشري.
مع أن كتاب “مختصر دراسة للتاريخ” يعدّ من الأعمال الموسوعية الضخمة، إلا أن الخط الرئيس لهذه السنن من القوانين في التاريخ بسيط للغاية. يتطوّر المجتمع البدائي ويتصيّر نحو حضارة لأنه ينجح بالاستجابة إلى تحدٍ سواءً أكان على النطاق المادي أم الإنساني. وتتكرر هذه النمطية من التحدي ثم الاستجابة باستمرار لأن كل تحدٍ يتصدى له المجتمع تصديًا ناجحًا يولّد تحديًا آخر، وهو ما يتطلب استجابةً إبداعية، وهكذا دواليك. ويعيّن توينبي هذا، عبر توظيفه للشروط المستمدة من الفلسفة الصينية، كحركة حالة الـ(يين) [السكون] إلى مقابلتها الـ(يانغ) [النشاط]، إذ يصرح بتصنيف هذه النمطية الحركية كأحد أصول التوازنات القائمة في الكون.
أما محركات النمو المجتمعي فتمثلت بالأفراد والمجاميع المبدعون. وهم كذا يخضعون لقانون يعرّفه توينبي بمسمى “الاعتزال والعودة”. الاعتزال عن المجتمع، سواءً أكان اعتزالاً حرفيًا أم مجازيًا، وتحسين مستويات الإدراك أو الحكمة أو السلطة، ومن ثم العودة إلى المجتمع وجلب منافع اجتهاداتهم وتسخيرها لصالح كل فرد. فتقتفي الأغلبية أثر هذه الأقلية الخلاقة من خلال عملية محاكاة أو تقليد، وبذلك تتقدم الحضارة. يشير توينبي أيضًا إلى أن قانون الاعتزال والعودة يمكن العثور عليه ليس فقط على المستوى الإنساني بل في الاعتزال والعودة الحولية للمحاصيل الزراعية كذلك. ويلفت الكاتب عناية القارئ أيضًا إلى انطباق القانون ذاته على النمو الروحاني الإنساني، لاسيما في عقيدة البعث المسيحية. ومثّل توينبي هذا الأسلوب باستخدامه لتشبيهات من العالم الطبيعي وكذلك من عدة نطاقات لأنشطة إنسانية بخلاف النماذج السياسية، وذلك سعيًا لتوكيد وجهة نظره حول السنن والقوانين المتكررة.