بسم الله الرحمن الرحيم
نعود إليكم هذه المرة حاملين بجعبتنا عملا منتظرا للمخرج الأميريكي (كوينتن تارانتيونو) وهو فيلم Death Proof الذي دخل به مهرجان كان السينمائي ونال ترشيحا للسعفة الذهبية.
بوستر فيلم Death Proof
كوينتن تارانتينو
وتدور قصة الفيلم حول رجل مهووس يستمتع بتعذيب الفتيات الفاتنات ولكن بطريقة عجيبة وغير مألوفة عبر سيارته التي اسماها Death Proof. يقدم لنا تارانتينو فيلمه الخامس بصيغة واسلوب مغاير، كما هي عادته في كل مرة، عن ما هو شائع بعالم السينما. فهو يقدم هذا الفيلم بصورة مستقلة وكذلك ثنائية مع رفيق دربه المخرج المتميز روبرت رودريجيز عبر فيلمه الثاني Planet terror وما بينهما سيتم وضع دعايات واعلانات عشوائية ولا علاقة لها بموضوع الفيلمين ويكون المجموع فيلما متكاملا وبعنوان The Grindhouse أو عرض السينمائي للسيارات. إلا إني لن أتحدث عن The Grindhouse بل الفيلم عنوان الموضوع واسلوب تارانتينو المثير للجدل.
بوستر للفيلم المزدوج The Grindhouse
بدايةً، يجب أن يتعرف المشاهد على اسلوب هذا المخرج. يعتقد الكثير من النقاد أن تارانتينو يستمتع بتعذيب المشاهد بأفلامه بحوارات قد تجعل المتفرج يضرب أخماسا بأسداس ويفكر كثيرا حول علاقة مجرى الحوار بموضوع الفيلم المطروح. وقد شاهدنا هذا بالفعل بكل من أفلامه Reservoir Dogs و Pulp Fictionونوعا ما في Kill Bill ، حيث يظهر أفراد العصابة يتناقشون ببداية فيلم Reservoir Dogs حول كيفية شهوانية المرأة ثم ينتقلون فجأة للكلام حول الوضع الاقتصادي في أميركا بعد رفض أحدهم دفع (البقشيش) للنادلة ثم ومن غير مقدمات نكتشف ما حدث بالفيلم. وفي Pulp Fiction نستمع للحوار الديني من صامويل جاكسون ومدى إيمانه الكبير بربه ثم نراه قاتلا لا يرحم… وهكذا. ويتكرر هذا الأمر في فيلمه الجديد Death Proof حيث يجبرنا المخرج بسماع حوارات تلك الفتيات وآمانيهن وطموحاتهن للوصول للشهرة والمجد حتى لو تطلب دفع أي ثمن بالنسبة إليهن ونصطدم لاحقا بأن مجرى الأحداث يسير باتجاه مفجع آخر. فهل يدفعنا (كوينتن تارانتينو) لكي نصرخ قائلين: نحن نكرهك يا تارانتينو!!!
لغة حوار أم لغة حركة
أعتقد أننا إذا وصلنا كمشاهدين لهذا الحد، فسيكون الرجل قد نجح كثيرا في مسعاه نحو رؤيته الفنية ومنظوره كمخرج سينمائي صاحب تقنية عالية جدا. باعتقادي أن أهمية الحوار في أي عمل سينمائي (وأقول سينمائي بحت) يجب ألا تطغى على أهمية الحدث نفسه من خلال رؤيته ومشاهدته بل وحتى تأمله وتفحصه، فالحدث أو الواقعة والفعل الحركي بالعمل السنمائي يجب أن يكون هو المسيّر والمحرك الغير مصطنع للحوار وليس العكس. فالناس تُجري أحاديثها وحواراتها مع الآخرين ثم تقع الأحداث التي قد لا يمكن التعبير عنها بالكلمات أو الجمل. إذا ما افترضنا أن هذه النقطة تحديدا هي مرتكز (تارانتينو) بصياغة اسلوبه ، الذي قد نكرهه لصنيعه هذا، فإن الحوار واللغة التي يريدنا أن نركز عليها هي لغة الكاميرا بشكل رئيسي، أما الحوار فلا يهم إن كان مثلا حول كيفية سلق البطاطا أو كان عن كيفية كشف هيلاري كلينتون عن صدرها…!
مع (فانيسا فيرليتو) بلغت الإثارة ذروتها
وقد يكون ما يفضله تارانتينو إلى جانب لغة الكاميرا هو حسن استخدامه لأداة الموسيقى التصويرية وتوظيفه السحري للموسيقى كعامل يساهم في زيادة انفعال المشاهد مع مجرى الأحداث. وقد أبدع الرجل في ذلك برأيي حيث ظهر ذلك في أفلامه التي شاهدناها، وقد تكرر هذا الأمر في Death Proof حيث استخدم موسيقى السبعينات (التكساسية) المثيرة وكانت متزامنة بشكل فعال مع حركة الكاميرا، وكأنك كمتفرج تشعر بأنك الذي تقود السيارة بشكل جنوني وأنت الذي ترقص وأنت الذي تضرب وليس شخصيات الفيلم وهذا الأمر رأيته بأعين كل من شاهد الفيلم.
سرعة… فموت!
ما يميز هذا الفيلم هو اسلوب تصويره ومونتاجه، حيث يجبرك تارانتينو بالعودة إلى أجواء السبعينات من ناحية تقطع الصورة والصوت( الاختياري) واستخدامه للتصوير باللون الأبيض والأسود، مرة أخرى، للحظات معينة (حتى إني اعتقدت أن الألوان تعطلت هكذا فجأة) واستخدام اسلوب التصوير المتقطع السبعيني وتوظيفه له هو باعتقادي اسوب مبتكر فمن يخطر على باله اعادة استخدام تقنية بائدة كهذه وجعلها من ضمن منظور فني وسينمائي بهذه الصورة. وأرى في ذلك ابتداعا لشيئ كان سائدا (ولو عرف أن أن أفلامنا العربية لا زالت تعاني من سوء الحفظ والتخزين مما يجعلها عرضة لتقطع مشاهد كثيرة، للطم الرجل على خديه!) وهو بهذ أثبت ذكاءه كمخرج ذو نظرة ومنظور فني معين، حتى لو كرهناه على ذلك وحتى لو تمنينا البصق في وجه هذا المنظور!
إثارة مخيفة مع كيرت راسل
بالنسبة لمشاهد الحركة (الآكشن)، فهي حقيقية وواقعية بشكل خطير جدا. ومشهد المطاردة والتعلق بالسيارة من البديلة المحترفة Stunt النيوزلندية (زوي بيل) تجعلنا نضع الأيدي على القلوب حيث مثلت الفيلم باسمها الحقيقي بعد أن اعطاها تارانتينو الثقة بأن تكون تلقائية بالحديث حيث يبدو أنه لا يلزم الممثل بأي نص للحوار بل يشرح لهم الموقف وتفاصيله ويجعل الحوار ينساب بشكل طبيعي وتلقائي فيكسب المشهد مصداقية هائلة، ولكنه مرة أخرى لا علاقة له بشكل نسبي بأحداث ومجرى الفيلم، فتمكنت هذه الرياضية البديلة من الظهور بشكل اعتيادي أما مشاهدها الخطيرة فأدتها بنفسها ببراعة وحدث بذلك ولا حرج. مشهد المطاردة كان عنيفا وسريعا إلى درجة أنه كاد أن يخرج عن سيطرة المخرج وكان الفزع الفعلي واضحا. حيث اضطرت السيارات للتخفيف وتقليل السرعة أكثر من مرة بسبب الخشية من وقوع حادث قد يكون مأساويا وقد يقضي ذلك على تاريخ كوينتن تارانتينو المهني. فقلل هذا التباين بمسألة السرعة من حيوية المشهد قليلا. لكن يبقى المشهد مثيرا بحيث يقطع الأنفاس ويحعل المشاهد خارجا عن رغبة التنبؤ بمصير هؤلاء الفاتنات.
سيارات ذات محركات قوية
يجب على المشاهد الذي يرغب بمشاهدة الفيلم أن يدرك أن الفيلم هو باسلوب أفلام ومسلسلات السبعينات من مطاردات سيارات رياضية كلاسيكية عنيفة فتجد هدير المحركات القوية هو السائد إلى جانب عامل الرعب الدموي الفتاك، وكذلك مع مراعاة أن الفيلم حول فتيات الاعلان الفاتنات وطريقة معيشتهن وطيشهن حتى أن أحد النقاد وصف الفيلم بأنه “Soft, soft core”. فلا يجنح تفكير أحد منا نحو شيئ أبعد من هذا. إن كوينتن تارانتينو يجعلنا نعايش باسلوبه المبتكر هذا (وأنا هنا لا أمدح ولا أذم بل أصف فقط) ما كان يعيشه ويحياه في صغره وشبابه ويجعلنا نتذمر مثلما تذمر ويجعلنا ننفعل مثلما انفعل ويجعلنا نتحمس مثلما هو تحمس. إنه يجعلنا نرى ونستمتع بعيونه هو لكنه لم يدخل شيئا لعقولنا أو قلوبنا.
وتقبلوا أطيب تحية
فيصل كريم