مراجعة كتاب: “يد الله”– وتقديم قراءته الصوتية – ونقاط خلاف حول الترجمة والموضوع

هذه قراءة صوتية من فيصل كريم لكتاب مُترجَم بعنوانه الأصلي الكامل:

Forcing God’s Hand: Why Millions Pray for a Quick Rapture—and Destruction of Planet Earth

لمؤلفته الكاتبة الأمريكية “غريس هالسل” Grace Halsell. وترجمه الأستاذ محمد السماك إلى العنوان العربي الآتي:

“يد الله: لماذا تضحي الولايات المتحدة بمصالحها من أجل إسرائيل”.

صدر الكتاب الأصلي في سنة 1999 (قبيل وفاة مؤلفته غريبة الأطوار والطباع بسنة)، وترجمه الأستاذ السماك مباشرة في سنة 2000 بعد إشارة المؤلفة له بأهمية كتابها، إذ سبق له ترجمة كتابها الشهير “النبوءة والسياسة” في عام 1989.

سأتناول في هذا المقال مسألتين حول هذا الكتاب:

أولا: الإشكالات اللغوية التي واجهها المترجم من ناحية منهجه في تعريب بعض المصطلحات الحديثة في فكر المسيحية الصهيونية.

ثانيا: مناقشة الفكرة الغريبة التي تطرحها المؤلفة، من ناحية صعوبة عدم تصور العقل العربي والمسلم لها.

======================================

وهنا رابط الاستماع للكتاب:

======================================

أولا: تواجهنا مشكلة المصطلحات التي تحتم على المترجم معالجتها، وتقديم منهجية معقولة لها. وحتى لا نظلم الأستاذ المترجم، فنحن نتحدث عن سياق زمني يتعلق بأواخر القرن العشرين، حين كانت معظم المعاجم والموسوعات العربية تفتقر في معظم الأحوال إلى حلول تعريبية قادرة على مكافئة مصطلحات “المسيحية الصهيونية الأمريكية”، التي أزعم أن العقلية العربية وثقافتنا العربية قد لا تنجح في تصورها بدقة؛ لانعدام معقوليتها في أحيان كثيرة، وإن كانت هذه عملية ليست مستحيلة بالكامل، ففن الترجمة -كما يوصف أحيانا- هو في نهاية المطاف “فن المستحيل الممكن”، وهذا يقتضي مفاتيح عديدة.

بيد أن المترجم والناشر اصطدما منذ البداية بمشكلة العنوان: Forcing God’s Hands. ولعل معالجة هذه الفكرة تستنزف منا وقتا وجهدا كبيرين، لكن إذا حاولنا الإيجاز قدر الإمكان، لنا أن نقول بأن الناشر أجبر المترجم على تبسيط فكرة العنوان المعقدة، التي تتلخص -حسب ما تراه المؤلفة- في أن ثمة من يريد ويسعى إلى إجبار الرب على عمل شيء معين. غير أن الناشر فرض على المترجم -كما لمّح في كلمته- تبسيط الفكرة إلى عبارة “يد الله” فقط، وهو ما دفع بالمعنى بعيدا عن الفكرة التي تقصدها المؤلفة. وأقرّ المترجم بعدم تقبل الناشر فكرة “إجبار يد الرب” عطفا على الناحية التسويقية، كما يبدو، أو ربما من ناحية التخوّف من عدم موافقة الرقابة على مثل هذا العنوان، أو ما يدور حوله. والحقيقة أن كلا المبررين لا معنى لهما، ويدخلان ضمن هواجس “حراس العقيدة”، وكأن عقيدة أهل الإيمان ستنهار بعد قرائتها هذا العنوان، الذي يصف حال بعض القوم في أمريكا، وجرأتهم على الله سبحانه وتعالى. فتعريب العنوان الأساسي غير موفق البتة، ويبدو أن المترجم تبرّأ بذكاء، عبر توطئته، من هذا التعريب المفروض والمرفوض الذي أخلّ بالمعنى المقصود إخلالاً بيّناً.

ثم نأتي إلى المسألة الحساسة التي دائما ما يختلف حولها معشر المترجمين، ألا وهي الخلاف حول التعاطي الأمثل في تعريب مفردة God. ويبدو أن هذا المثال يدلل على صحة المنهج الذي تبنيناه. فعلى وجه العموم عندما يرِدُ إلينا مفهوم God نتساءل -مرة أخرى وحسب المفاهيم المسيحية البروتستانتية- هل المقصود “الله” ذاته، أي استعمال لفظ الجلالة للدلالة على مفهوم “الأب”؟ أو المقصود الطرف الآخر، وهو يلفظ أحيانا بمصطلح Lord أي مفهوم “السيد الرب” وهو نفسه مفهوم “الابن”، أي السيد المسيح؟ ومن جهة ثالثة، يبدو كما فهمت أن من النادر استعمال أو اسقاط مفهوم God على مصطلح “الروح القُدُس” Holy Spirit مع أن الثلاثة معا يكونون المفهوم المشترك “الثالوث المقدس” Holy Trinity حسب عقائد اللاهوت المسيحي.

وما يظهر لنا أن ثمة تجاذبا في الفكرة في أوساط المترجمين.

أما إذا خصصنا النقاش في هذا المثال، أي فكرة الكتاب الماثل بين أيدينا، فيجوز لنا أن نرى بوضوح عدم سلامة استعمال لفظ الجلالة في هذا الصدد. فمن هو الذي سوف يُجبر على شيء بعينه يريده الأمريكان وأصولييهم: هل هو “الله” ذاته -بلفظ الجلالة- أو المسيح؟ وبعبارة أخرى، أليس من الأحوط والأكثر تحرزا استعمال مفردة “الرب” بدلا من لفظ الجلالة، حتى تكون الدلالة أشمل، ومن ثم، أسلم؟ فمنهجنا في هذه المسألة واضح: الابتعاد عن استعمال لفظ الجلالة إذا كان المقابل لفظ God؛ وذلك للتشابك الثلاثي في الدلالة بالفكر المسيحي، حسب المذكور آنفا.

ثم نأتي إلى مصطلح آخر معقّد يرد في العنوان الفرعي للكتاب، وهو ما اختار المترجم تبديله إلى عنوان فرعي آخر (يبدو أنه جاء في طبعة أخرى للكتاب الإنكليزي). المصطلح هو Rapture، ويبدو -حسب علمي- عدم وجود تعريب دقيق لهذه الفكرة البدعية الجديدة في الأدبيات البروتستانتية. فمن الصحيح أن المعنى العام لهذه المفردة ينحو إلى “الجذل والنشوة وذروة الفرح…إلخ”، لكن الدلالة المقصودة هنا مختلفة تماما، إذ هي دلالة اصطلاحية ابتدعها القس الأمريكي المعروف سايروس سكوفيلد Cyrus Scofield عند نشره عمله المهم “الكتاب المقدس المرجعي” Scofield Reference Bible في عام 1909، إذ أضاف فيه بدعة هرطقية جديدة، حسب زعم منتقديه، اسمها Rapture ويقصد بها “صعود المؤمنين إلى الجنة لحظة عودة المسيح الثانية”، فأضاف بذلك معنىً اصطلاحياً جديداً لهذه المفردة منذ تلك السنة. وهكذا فإن التعبير الذي استعمله المترجم “النشوة الدينية” لا يخدم القارئ في إدراك الدلالة المقصودة. ولو عاد لي الأمر لنحتُّ عبارة مقتضبة مثل “الصعود السعيد” أو “الارتقاء السعيد” أو نحو ذلك من المعاني.

أتذكر في هذا الصدد مساهمتي في الوكيبيديا العربية، قبل ما يربو على عشرة أعوام، حين ترجمتُ مقالتين واسعتين حول أهم شخصيتين في الفكر المسيحي الصهيوني الأصولي في بريطانيا والولايات المتحدة، وهما جون نيلسون داربي وتلميذه (سيء الطوية والخلق) سايروس سكوفيلد، وزخرت تلكما الترجمتين بمصطلحات عديدة ومعقدة، منها Futurism “المنهج المستقبلي” (وهذا مصطلح يختلف عن الحركة الفنية التي ظهرت في إيطاليا في بداية القرن العشرين)، و Dispensationalism “التدبيرية” (ولعل المترجم نحا إلى تسميتها بـ”القدرية”، وهذا في رأيي خلط وارتباك اصطلاحي. هذا بالإضافة إلى المصطلح المسيحي المتفق عليه Millennium “الألفية” الذي يشير إلى عودة المسيح وحكمه الأرض لألف سنة، وقيل ألفي سنة. وتبين أن وصفين ينبثقان من ذلك المصطلح: millennial و millenarian وكلاهما بمعنى “ألفيّ”.

ثانيا: أما ما يتعلق بموضوع الكتاب، فلا بد من الإشارة إلى ارتباط المؤلفة بهذا التيار الأصولي المسيحي الصهيوني في الولايات المتحدة، مع أنها تحاول بطريقة أو بأخرى التملص منه ومن تبعاته التدميرية أخلاقيا وعمليا. لكن على القارئ أن يدرك السياق الذي تتحدث منه المؤلفة.

فالسياق يقع في خضم الأزمة السياسية التي أوقع البلاد فيها رئيسها الأسبق بيل كلنتون في نهاية تسعينيات القرن الماضي (ولأستعر هنا لغة نجيب الريحاني في فيلم “غزل البنات”، بتاع مونيكا لوينسكي واللي قبلها، واللي قبل قبلها😂). إذ جرى على الهواء مباشرة التحقيق المحرج معه حول “كذبه وهو تحت القسم” Lying Under Oath، وليس على علاقته الآثمة مع تلك المتدربة اللعوب في البيت الأبيض.

وتوجه غريس هالسل سهام نقدها، في مفاصل متعددة من كتابها، إلى كينيث ستار، المحقق العدلي الذي قاد حينئذ التحقيق حول الشبهات التي طالت الرئيس، ثم آلت إلى الشروع في إجراءت عزله Impeachment. وكاد يومها كلينتون يُعزل، لكنه نجا بفارق صوت وحيد فقط. ويبدو أن هالسل، التي لا تخفي ميولها دفاعا عن ذلك الرئيس زير النساء، حوّلت كتابها، بطريقة ما، إلى مواجهةٍ شخصيةٍ مع التيار اليميني الأصولي، الذي قاد التحرك نحو عزل كلنتون.

مهما يكن من أمر، فضحت هالسل نقاطا مركزية في الفكر السطحي، الذي يقوم عليه التيار اليميني الأصولي الأمريكي، لكنها لم تفصّل كثيرا في علاقة البيت الأبيض ودوائر صنع القرار بهذا التيار، على الرغم من تحدثها عَرَضا حول غدر الرئيس ليندون جونسون “بطمطته” لقصة السفينة ليبرتي، التي قصفها الجيش الصهيوني، بيد أنها لم تشر من قريب أو بعيد لارتكاب جونسون بذلك جريمة الخيانة العظمى من خلال هذا التستر المشين على الصهاينة، وهو الأمر المنطقي، وربما منعها عن ذلك أن له سابق فضل عليها بتعيينها مديرة للشؤون الصحفية ضمن إدارته.

من جانب آخر، توضح غريس هالسل في كتابها سعي التيارات اليمينية الأمريكية المتطرفة إلى الدفع بعملية تدمير المسجد الأقصى وقبة الصخرة؛ بغية بناء “هيكل سليمان” على أنقاضهما، وتستعرض في كتابها أسماء كثيرة سعت إلى ذلك، بدءا من فلاديمير زئيف جابوتنسكي الذي أسس عصابة “الهاغانا” في سنة 1923، مرورا بدوغلاس كريكر، وليس انتهاء بالقس الأمريكي المهووس جيري فولويل وصاحبه المعتوه بات روبرتسون، غير أن هؤلاء لهم وصول دائم للبيت الأبيض، ولأذن الرئيس الأمريكي، الذي يطربه كلامهم.

يتكرر في كتاب هالسل التحذير من هذا التيار -الذي كثيرا ما يصل أتباعه أو مؤيديه والمتعاطفين معه- إلى مواقع حساسة في السلطة الأمريكية ودوائر صنع قرارها، ومن أمانيهم في تدمير العالم العربي بالأسلحة النووية؛ لأنهم يرون في ذلك تحقيقا للنبوءات الواردة في كتابهم المقدس، مثل نبوءة سفر الرؤيا Revelation، وهذا التدمير للعرب، وكذلك للعالم، وربما لأنفسهم، يجسد ذروة سنام دينهم الملعون، وكثير منهم يتعجلون تحقيقه على أرض الواقع؛ لكي يصعدوا “صعودهم السعيد” إلى الجنة Rapture وهم يرون المسيح من الجانب الآخر للمصعد، ينزل لمحاربة قوى الشر بوصفه “جنرالا بخمس نجوم” -حسب وصف المؤلفة- يمتلك أسلحة تدمير شامل؛ للقضاء على الدنيا وما فيها. ولا أفهم كيف سيبني بعدئذ عالم الخير على الأرض بعد هذا المحق الشامل للبشرية، في الوقت الذي يتفرج عليها “المؤمنون” -حسب سكوفيلد- من نوافذهم في جنته المزعومة!

ثم أن المؤلفة توضح لنا كيف أن القانون الأمريكي هو مجرد حبر على ورق، أي أنه بمعنى آخر “بطيخ على بطيخ”. إذ تشير إلى أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة في العالم التي تسمح لمواطنيها بحق الانتخاب في الكيان الصهيوني حصرا، على الرغم من وجود مادة صريحة “في القانون الوطني الصادر في عام 1940،” تنصّ على بطلان جنسية أي مواطن أمريكي متى ما أقدم على هذا الأمر، لكن قرارا صادرا من المحكمة العليا في سنة 1967 سمح لشخص أمريكي يدعى بايس أفرويم بالتصويت في الانتخابات الإسرائيلية. وبناءً عليه، فالقانون الأمريكي (كأي قانون وضعي آخر) مجرد بطيخ، أما الدستور فهو سبانخ، ممكن أن يوضع في لفائف لاستعمالها كشطائر متى ما شاء علية القوم؛ لأنهم -ولوحدهم- قد يرون في ذلك “مصلحة عليا”.

وما يؤكد لنا هذه الحقيقة قصة الجاسوس الصهيوني جوناثان بولارد، الذي صنفه الأمريكان أنفسهم على أنه أخطر جاسوس مرّ على تاريخ أمريكا، وأقرّ أنه مذنب، فحُكم عليه في عام 1986 بالسجن مدى الحياة. ثم خرج بردا وسلاما، وكأن شيئا لم يكن.

ومن النماذج الأخرى الفاضحة لعوار القانون الأمريكي تجاه الصهاينة، قضية قاتل أمريكي يدعى صموئيل شينبين ارتكب جريمة بشعة بحق جاره في سنة 1997 بأن قطّعه إرباً، ثم فرّ على إثرها من الولايات المتحدة إلى الكيان الصهيوني، مطالبا بأن يُحاكم فيها على اعتبار أنه يهودي، على الرغم من أن قدميه لم تطآ الكيان الصهيوني قبل ارتكابه جنايته. فأخذ عند الصهاينة حكما مخففا، لكن غريس هالسل توفيت قبل أن تعلم عن إقدام شينبين نفسه على إطلاق النار على حراس السجن الصهيوني الذي يقبع فيه، قبل أن يردوه قتيلا في ربيع عام 2014 على إثر محاولته الفاشلة بالهرب من السجن.

هنالك مشكلة منهجية وقع فيها المترجم، مع كامل تقديرنا لجهده الطيب. المؤلفة أشارت إلى مراجع وكتب كثيرة، لكن المترجم اكتفى بوضع عناوينها المترجمة دون عناوينها الأصلية بلغتها الإنكليزية، ومن ثم لم يتمكن القارئ من الرجوع إلى هذه الأعمال المرجعية للاستزادة منها، والحق أن هذا يقلل من القيمة العلمية لأي كتاب بطبيعة الحال؛ إذ لا بد من ذكر اسم الكتاب أو المؤلف بلغته الإنكليزية، أو أي لغة أخرى، إلى جانب عنوانه المترجم حتى تتحقق الفائدة المرجعية. وهذا ما رأيته مثلا في كتب أخرى مثل أعمال منير العكش، وبعض كتب عبد الوهاب المسيري، وآخرين. وينبغي على كل ناشر الحرص على هذا الجانب حتى تتحقق فوائد أكبر من هذه الترجمات المضنية.

هذا كل ما بجعبتي من أفكار موجزة عن الكتاب، والحمد لله من قبل ومن بعد.

أضف تعليق