في ذكرى أبي رحمه الله

في مثل هذه الأيام، قبل بضع سنين، تُوفّيَ والدي رحمه الله، وأموات المسلمين كافة. وكان ذلك في فواتح شهر رمضان المبارك.

وأتذكر من مناقبه ومحاسنه غفر الله له، ولوالدينا أجمعين، أمورا كثيرة، أهمها حكمته -طيب الله ثراه- وسعيه الدائم في الإصلاح بين الناس. لكن لا تغيب عن ذهني عبارة بليغة ما فتأ يرددها عند حكمه بينهم، ألا وهي “قصّ الحق من نفسك”. وكنت أتأملها وأنا شاب صغير، محاولا إدراك معانيها العميقة، فإذا بها نابعة من قول الباري عز وجل في سورة الأنعام الآية 57:

{قُلْ إِنِّي عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ ۚ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ ۚ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ يَقُصُّ الْحَقَّ ۖ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ}

فالحكماء من أهل بلادنا وما جاورها يكثرون من قول هذه العبارة العجيبة، وذات الدلالة التي تدعو إلى العدل ومنح كل ذي حق حقه. فالنفس البشرية، أيها الإخوة والأخوات، يعزّ عليها انتزاع حق الآخرين منها ومنحه لهم، وهنا لا بد من شيء يشبه المقص يقطع الحق الذي يستحقه الآخرون قطعا من النفس ذات الشهوات والرغبات، وهنا يتحقق العدل والقسطاط في نفوس الخلق.

رحمك الله يا أبا فيصل… إذ كان من الشعراء الذين استعملوا كلماتهم طلبا للرحمة ورضوان العزيز الحكيم، وتعطّرت بدايات قصائده ونهاياتها بذكر الله تعالى، والصلوات والتسليم على رسوله المصطفى النبي الأمين ﷺ، وكانت ضالته في أشعاره الحكمة، والاعتصام بالحق، وتحري الأمانة، وأخذ العبرة والعظة من الأولين والسابقين والتعلم من مآثرهم وتجاربهم وتضحياتهم، فكذلك كان موضوع ديوانه الأول “الوصف والذكرى”، الذي نضح بهذه المعاني الجزلة والجليلة. أما كتاب ديوانه الآخر فقد استمسك -رحمه الله- بميثاقه الذي قطعه مع نفسه لله سبحانه وتعالى، فكان “وفاء العهد”، وما حاد عنه قيد أنملة، فحسبه الله {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}.

اللهم يا مقدّر الأقدار، اجعل كلمات أبي وأعماله الصالحات في ميزان حسناته.
اللهم ارحمه، واجعل المسك ترابه، والحرير فراشه، وأسكنه في جنات الفردوس الأعلى. اللهم أنر قبره وآنس وحشته، وارحم ضعفه، وتجاوز عنه، واجعل الجنة داره وقراره، بفضل أيامك المباركة التي توفيته فيها، وموتى المسلمين كافة. اللهم آمين.

أضف تعليق