في مسألة التلاعب بالعامل الزمني الذي انتهجه المخرج كرستوفر نولان في فيلم “أوبنهايمر” Oppenheimer، والذي يشتكي منه كثيرون بعد مشاهدتهم العمل، فلا أرى أن هذا العامل كان له دورا سلبيا على المشاهدة؛ لسبب بسيط تجلى في أن المخرج التزم خطا سرديا (موضوعيا) ثابتا، رغم استعماله لتقنية التقديم والتأخير بالزمن (وهي بالمناسبة تقنية أدبية تستعمل في الأعمال الروائية لأغراض متعددة).
والخط السردي للعمل ركّز على الصراع السياسي الخفي الذي واجهه هذا العالم الفيزيائي الخطير، والذي تكشفت خيوطه تدريجيا. والمفارقة في هذا الصراع أن رأس الحربة فيه هو الشخصية نفسها التي يفترض أنها تحمي أوبنهايمر، وكل من عمل بالمشروع السري، الذي أثمر عن صناعة أول قنبلة ذرية في العالم. ولويس ستراوس (الذي أدى دوره باتقان روبرت داوني جونيور) ليس غريبا عن أوبنهايمر، فهو يهودي مثله -وهنا مفارقة أخرى- وهنا أيضا نمسك بخيط يبدو أن المخرج نولان ألمح إليه، ألا وهو أن ثمة تنافسا أو صراعا يهوديا-يهوديا في تلك الحقبة على الارتقاء لأعلى المناصب في الولايات المتحدة، وهذا خط آخر استخدمه نولان لبلورة الفكرة، وهو محاولة ستراوس ضرب عصفورين بحجر، وإن كان على حساب ابن طائفته: الحصول على ترشيح منصب وزير التجارة آنذاك، وكذلك ضرب أبرز الرموز الناجحة للشيوعية في البلاد. وهو ما فشل فيه في نهاية المطاف.
أعتقد أن السردية التي ركز عليها العمل تكمن في هذه الدائرة، واتخذت من شكل السيرة الذاتية غلافا لها.
يتضح للمشاهد أن الشيوعية كانت موجودة وعلنية في الولايات المتحدة في العشرينيات والثلاثينيات، إلى جانب كثير من التيارات اليسارية الأخرى. ويعرض لك فيلم أوبنهايمر كيفية انقلاب الأحوال رأسا على عقب، وأن الشيوعية أمست بين ليلة وضحاها الشر المطلق المبين. وهنا حدث ما لم يكن في الحسبان عند حبايبنا اليهود؛ لأن الشيوعية -بصورة أو أخرى- اختراع خرج من بنات أفكارهم، وربما كانت حلا لمشكلتهم في أوروبا.
لكن ما تبين لاحقا أن المصلحة الأمريكية لا تريد ذلك، والنفور حدث تدريجيا في البلاد إلى أن تجلت ذروته بلجنة جوزيف مكارثي (فخرج لنا مصطلح “المكارثية”). هنا تورط بطلنا أوبنهايمر، وبات يُحاسب بأثر رجعي، مع أنه زعم مرارا تطليقه الفكر الشيوعي، لكن المسؤولين لا يصدقون ذلك بطبيعة الحال. وهذه اللعبة هي ما ركز عليه كرستوفر نولان، وربما تعلل استعماله تقنية التغيير الزمني.
ملاحظة على هامش الفيلم: لا بد من توجيه الشكر للنجم الكبير غاري أولدمان لتجسيده دور الرئيس الأمريكي هاري ترومان في فيلم “أوبنهايمر” (على صغر مساحة دوره)؛ لأن هذا وافق ما ذكرناه سابقا من بلاهة ذلك الرئيس المدهشة… لكن غاري أولدمان أتقن أداء هذه الشخصية ذات الغباء المركب. وقد أعجزت بلادة ترومان العالِم صاحب القنبلة الذرية، فالثاني يقول ثور، والأول مصرّ على حلبه.
