للجيل الحالي من الشباب أن يلاحظ النبرة العالية ضد الخطاب السياسي الأمريكي إزاء القضية الفلسطينية، وقد يرون في ذلك مبالغة أو ترديدا للخطاب القومي العربي، الذي انتهى إلى فشل ذريع عبر محطات متعددة من القرن العشرين وما تلاه. فدعونا نحاول تفسير هذه النبرة بكل شفافية بناءً على المعطيات التاريخية الثابتة لنتعلم منها ونتعظ.

في منتصف الثمانينات، وصلت الأنظمة العربية إلى ما أطلق عليه حينئذ “مرحلة الوفاق العربي”، وانتهت بعد خمس سنين من الآمال العالية إلى نهاية مفجعة: الغزو العراقي للكويت، إذ انقسمت هذه الأنظمة بآرائها حول هذه الطامة، وتشرذم توافقها إلى جزيئات لا تكاد تُرى بالعين المجردة.
ثم أن رئيس العراق الأسبق حاول وضع عقدةً في منشار غزوه المتعوس بأن اشترط لسحب قواته من الكويت (بعد أن أمسى بموقف يائس) انسحاب الكيان الصهيوني من أراضي 1967. تفطّّن الأمريكان إلى خطورة هذا الربط، فدعوا بعد الحرب إلى إقامة “مؤتمر سلام شامل” (على حد زعمهم، أو كما تصورت الأنظمة العربية البائسة) في مدريد، وعُقد بالفعل في أواخر أكتوبر 1991.
وهنا يأتي السؤال الأكبر والأخطر: هل تعهد الأمريكان بحل القضية الفلسطينية حلا عادلا وشاملا ونهائيا، بوصفها جوهر الصراع العربي-الصهيوني؟
ما نفهمه أن هذا التعهد قدمه فعلا وزير الخارجية الأمريكي الأسبق جيمس بيكر، ورئيسه الأسبق جورج بوش، عبر عدة خطابات، وجولات مكوكية في المنطقة.
أما إذا لم يقدم الأمريكان هذا التعهد، فمن حقنا التساؤل: هل المسؤولون العرب الذين ذهبوا لمدريد مجموعة من قطعان أو حمير انقادوا لبيكر بلا معنى؟ نستبعد ذلك، فهم تجشموا عناء الرحلة بناء على وعود أمريكية صريحة بالحل.
لكن مؤتمر مدريد تحول في نهايته إلى مسرحية تهريج هزلية، إذ بعد أن ألقى رئيس الوزراء الصهيوني إسحق شامير كلمته الجوفاء على المؤتمر، هرب بعدها، فوجدنا فاروق الشرع وزير الخارجية السوري يظهر صورة شامير مطلوبا للشرطة البريطانية بوصفه مجرما إرهابيا وقت الانتداب.
أيقنا هنا أن المؤتمر قد فشل، ومن يتحمل مسؤولية هذا الفشل هي الولايات المتحدة؛ لأنها وبكل وضوح، لم تتسم بأي جدية لتقديم “حل عادل وشامل” كما وعدت، بل جعلت شامير “يتدلع”، واللوبي الصهيوني يتدخل، بالإضافة إلى سماحها ببعض المماحكات العربية العربية، ليصب في مصلحتها بإفشال المؤتمر، والظهور بمظهر من بذل أفضل مساعيه للحل، لكن ذلك ليس بيدها.
والصحيح أن أمريكا لم تواجه أي ضغوط تجبرها على تقديم حل عادل؛ لأنها منحازة تماما للكيان الصهيوني، إلى حد يجعلنا لا نميز من الراكب والمركوب عليه في العلاقة الآثمة بينهما. في حين أن معظم الأنظمة العربية تجهل معالم هذا “الزنا السياسي” بين العشيقين، ومارس بعض العرب “تفكيرا رغبويا” عبر التمني بأن تتحلى الولايات المتحدة بموقف “الوسيط النزيه”، لاسيما عقب انهيار الاتحاد السوفييتي.
والحق أن هذا الانهيار بحد ذاته يعد عاملا مهما لزوال الضغوط على أمريكا لتقديم حل (قارن مع مفاوضات قرار مجلس الأمن 242 ومبادرة روجرز ديسمبر 1969).
وكذلك تسليم الأنظمة العربية لخيوط الحل للإدارات الأمريكية بدءا من مبادرة روجرز 1969، ومعاهدة كامب ديفيد 1979، أدى إلى زوال أي ضغط على الأمريكان، الذين لا يؤمنون أصلا بربط سياساتهم بأي مبادئ أخلاقية، كالعدل والنزاهة والإنصاف.
ثم تمخض الجبل الأمريكي فولد فأرا، وتجلى ذلك باتفاقية أوسلو المشؤومة، التي حاولت إعادة تأهيل منظمة التحرير الفلسطينية بعد قيام الانتفاضة عام 1987، وشعورها بقرب ضياع سيطرتها على القرار الفلسطيني، وكذلك بعد موقفها الهزيل في مسألة الغزو العراقي للكويت، لمحاولة إخماد الثورة الشعبية العارمة، التي أعادت تسليط الضوء العالمي على قضية الشعب الفلسطيني، فمارست الولايات المتحدة سياسة خبيثة (ونجحت لبعض الوقت) في ضرب مكونات الشعب الفلسطيني بعضه ببعض، مستغلةً في ذلك الرغبة السلطوية عند قيادة المنظمة، إلى وقت حدوث الانتفاضة الثانية، ووقوع الانقلاب (الخفي) على ياسر عرفات.
أدت تلك الوقائع إلى انكشاف الموقف الأمريكي، ولجوئه إلى سياسة “تعطيل الحلول وتشتيت تركيزها” إلى أن شاهت الوجوه إثر إعلان بوش الابن عن”يهودية الدولة”وكل ما تلاه من عك سياسي.
وختاما، موقف الشعوب العربية إزاء الخطاب السياسي الأمريكي واضح بسبب نزعاته المصلحية والعنصرية والآيديولوجية المضادة للعرب والمسلمين إزاء قضيتهم الكبرى. ويتضح منه أن الولايات المتحدة وحكوماتها المتعاقبة طرف غير موثوق به مطلقا، وعليها أن تتحمل المسؤولية السياسية والتاريخية والأخلاقية لمواقفها التي كانت سببا رئيسا في عدم الاستقرار في المنطقة، مستغلةً بذلك سوء حال المنطقة العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وهو سوء لن يدوم.

