{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} طه: 12.
كوكب الأرض… يظهر للعبد أن خالقه سبحانه صنعه على طاقة عظمى كامنة فيه. وهي طاقة نابضة بالحياة، قد لا يدرك جوهرها الإنسان، لكن له أن يشعر بها بدرجات متفاوتة.
والأحرى بالإنسان إلا يجعل بينه وبين هذه الطاقة (التي هو في أمسّ الحاجة إليها) حائلا أو مانعا لتوصيلها إليه -وفيه- مهما صغر (كالنعلين). وأفضل تعبير لهذه الطاقة هو مسمى “البركة” التي تعني لغةً: الخير والنماء والسعادة. على أن أسمى صور البركة كل ما هو مقدّس. والإنسان بذلك يكون كالقابس الذي يتوق لبلوغ هذا التيار من البركة والقدسية النابع من هذه الأرض التي أفاض الله عليها وفيها من النعم مما لا يعد ولا يحصى، ولعل المؤمن هنا يستدرك ذلك التحدي الذي أعلنه جل جلاله بقوله:
{وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ ٱللَّهِ لَا تُحْصُوهَآ ۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} النحل: 18.
ومكمن التحدي في عبارة {وَإِن}، أي أنه سبحانه “إن” سمح لنا بعدّ نعمه، فهل البشرية قادرة على ذلك؟ هذا من الوهم الشديد، وإلا كم نفسا تنفست خلال أقل من ثانية؟ هل تستطيع عدّ ذلك أو إحصاؤه؟ هيهات! فما بالك بالنعم الأخرى في أنفسنا، وفي الأرض، وما عليها! والمؤمن لا يدخل في تحدٍ مع خالقه، حتى وإن وارب له الباب، وهذا من حسن الأدب مع سبحانه وتعالى، فنقول إنها نعم لا تعد ولا تحصى. (ومن سوء الأدب مع الوهاب الكريم أن نصدق المقولات الاقتصادية الغربية بمحدودية الموارد على الأرض، ولا أجد من يصدق ناهبي ثروات الأمم إلا كل أحمق مفتون).
أرى أن المعجم الوسيط اختار الآية الكريمة المذكورة آنفا للتدليل على معنى مفردة “مقدس”، ألا وهي تلك البقعة المباركة التي شاء الباري سبحانه تكليم نبيه الرسول موسى عليه السلام. والظاهر للقارئ أن معنى التقديس والبركة في تلك البقعة إنما يرتبط بهذه الطاقة المقدسة، التي لها أن تسري في جسم الإنسان وروحه، فتعمل عمل الشفاء لكل علة بدنية ونفسية. غير أن تلك البقعة بعينها ليس ثمة أهمية خاصة بمعرفتها؛ إذ يبدو أن الأهم هو فكرة البركة والتقديس اللذين ينبغي على كل إن الاتساق معهما بأعلى قدر من التركيز والروحانية.
ألاحظ في هذا المقام أن الأمم الشرقية شعرت بهذه البركة المتصلة بالأرض، أكثر من نظيراتها في الغرب. فتجد أن ثقافات الأولى تحترم الأرض وأماكن الجلوس والسير الطاهرة، فلا يرتدي أهلها النعال عند الاجتماع أو السير على البقع النظيفة، وهذا أدعى للإنسان للحفاظ على طهارته الشخصية من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه، ونلحظ هذا حتى عند قراءتنا لأدبيات الشعوب في الصين واليابان؛ إذ تجدهم أشد الخلق حرصا على النظافة والطهارة الشخصية والمكانية، ولعل هذا ملمح مهم على ظهور أنبياء أو رجال صالحين فيهم علّموهم هذه الأصول، في حين أن الشعوب الغربية لا نكاد نقرأ في أدبياتهم شيئا يذكر عن النظافة والطهارة، وعن درجة انعكاس ذلك على حياتهم وسلوكياتهم. وقد يقول قائل إن هذا مردّه طقسهم وبرودة أجوائهم، وهذه حجة مردود عليها، فثمة مناطق جبلية عالية في الهند والصين طقسها أشد من برد أوروبا الغربية والشمالية كلها، ولم يفعلوا فعلهم.
أما الدلالة الجلية على وجود هذه البركة (الطاقة الإيجابية) فنرى ملمحا منه في آيتين سابقتين لهذه الآية الكريمة، ألا وهما الآية الخامسة والسادسة من السورة نفسها، إذ يقول الباري عز وجل:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}
فتأمل قوله {وما تحت الثرى} لترى هذا الترابط الكوني (وما بعد الكوني) العجيب الذي يفسر شيئا من أسرار هذه البركة، التي تنبع من الرحمن وعرشه، ثم تنساب إلى كل شيء، وتنغمس فيه، إذ يوفر الله سبحانه لها المنافذ التي يختارها بمشيئته جل وعلا. ومن أهم مقتضياتها التواضع للخالق سبحانه، ونبذ كل ما يحول دون هذا التواصل والاتصال الجسدي والروحاني العميق.
والله أعلى وأعلم
