يبدو أن الأنظمة العربية الطارئة في القرن العشرين بشقيها “القومجي” و”الوطنجي” وجدت ضالتها في إلهاء عامة الجماهير العربية عقب منتصف ذلك القرن بلعبة ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدا في إنجلترا ثم انتشرت في عموم العالم، فاستفحل أمرها وتطاير شررها.
استغلت الأنظمة العربية المجنونة لعبة كرة القدم أبشع استغلال رغبة بتخدير وعي الشباب العربي والسيطرة عليه و”تتفيهه” وإبعاده عن الشعور بالقضايا الكبرى التي لا بد أن يعالجها حتى لا يضيع مستقبله ويتجه مصيره نحو المجهول. ومن الواضح أن الشباب العربي أدرك خطورة المسألة فأصبح هو من يقود الانتفاضات والثورات الشعبية العربية المتتالية وموجاتها الحالية والمستقبلية، فيما تحتار الأجيال السابقة الأكبر سنا ممن أدمنوا هذا الإلهاء ويتساؤلون عن علم أو جهل “من يقود تلك الانتفاضات”؟
على أن من الإنصاف ملاحظة أن ظاهرة كرة القدم وانتشارها واستغلالها كوسيلة إلهاء خطيرة تعد من الظواهر العالمية ولا تنفرد بها منطقة دون الأخرى. غير أن منطقتنا العربية تتميز بحيويتها وأهميتها كمركز وسيط في العالم، وبالتالي نلاحظ ازدياد الإنفاق عليها إلى ما لا حد وإنشاء تجهيزات ضخمة والصرف بعشرات بل ومئات الملايين على اللاعبين والمدربين والإداريين فضلا عن إقامة البطولات العالمية العظمى التي أصبحت من علامات الاعتراف الدولي وترسيخ مكانة الدول عالميا وتاريخيا، بغض النظر عن التداعيات الإقتصادية والإجتماعية والأخلاقية. كل هذا لا يهم، حتى وإن تحققت “الانجازات الرياضية” كما يصفونها عبر صفقات مشبوهة وسرقات مالية كبيرة ومفضوحة. فهو “إنجاز” لهذه أو تلك الدولة وإن جاء على حساب المواطن المسكين الذي يحتاج حاجة ماسة إلى مشاريع نهضوية إقتصادية وإجتماعية وسياسية كبرى تنتشله من الواقع المزري الذي يواجهه.
وليت شعري، لم نرَ من تلك الإنجازات المزعومة سوى إنجاز السرقات المليارية وتبييض الأموال المنهوبة من الخزائن العامة التي يسفحونها سفحا على هذه السفاهات دون حسيب أو رقيب، فيما الناس ما بين مشدوه ومذهول أو منساق في هذا الجنون، ولا يلام على ذلك إذ هو مسلوب الإرادة وليس له من الأمر.
أما المظهر الجديد لجنون كرة القدم فهو التنافس المحموم والأحمق على احتكار بث المباريات العالمية والمحلية المهمة. إذ وصلت المسألة إلى حد المضاربات بأسعار فلكية بين القنوات التلفازية الرياضية، بعضها تتلقى دعما كبيرا فنراها تواصل السباق، وبعضها الآخر أسقط في يدها ولم تتحمل التكاليف الباهظة التي قد تصل إلى مئات الملايين لعرض منافسات مثل كأس العالم لكرة القدم أو دورة الألعاب الأولمبية أو الدوريات الأوربية كالإنجليزي والأسباني.
وعودا على بدء، نلاحظ أن هذا التنافس “الرأسمالي المتوحش”، سواء على اللعبة ذاتها أو على بثها وعرض فعالياتها، قد أوقع المنظومة القومجية/الوطنجية العربية التي اخترعها الغرب في ورطة كبرى. فخزائنها التي خصصتها للإنفاق على هذا الإلهاء قد جف ضرعها بسبب قواعد الاحتكار الرأسمالي ووأمست غير قادرة على الدفع حتى لثمن بث مباراة واحدة مهمة كنهائي دوري الأبطال الأوروبي، وهو النهائي المرتقب الذي كان يبث مجانا طوال فترة السبعينيات والثمانينيات وحتى أواخر التسعينيات ويشاهده ملايين العرب. ويبدو كذلك أن الاتحادات المعنية لكرة القدم كـ”الفيفا” و”اليويفا” لا تشعر بضرورة إدراك أن حاجة الأنظمة العربية لاستخدام عرض مباريات كرة القدم هي شديدة وماسّة لإكمال مسرحية الإلهاء على الشباب العربي الذي ورث هذا المرض من الجيل الذي سبقه، نظرا لتحول تلك الإتحادات إلى ما يشبه العصابات “المافوية” التي ترى في كرة القدم دجاجة تبيض ذهبا لا ينقطع بسبب حالة الجنون التي انتابت العالم بأسره. لكن وضع أنظمة العرب يتصف بالحساسية الخاصة والحرجة.
الطريف أن صنوفا من الهبل والعبط نراها في كل بيت عند تشغيل التلفاز ومشاهدة المباريات بأصوات معلقين أشك بصلاحية قواهم العقلية. فأحدهم يصرخ بجنون عند تسجيل هدف “وجون وجون وجون!” فرد عليه مشاهد “يا كداب، هو جون واحد بس”😁 ويصيح معلق معتوه آخر على مسامعنا “صفّر يا حكم لإنهاء المباراة، وإلا سأعطيك صفارتي”😂. وآخر غريب الأطوار يرطن بالفرنسية Oh, la la والناس عندنا يحسبونه يهذر بالعربية. وينعق آخر “ويضربها بالكرباج” لاحظ كل هذه السادية على مجرد كرة😊. وآخر ظل نائما طوال المباراة ثم أيقظوه لحظة إحراز هدف فصاح فجأة فأفزعنا ووتر أعصابنا😲.
اللعبة انتهت يا أنظمة الخيبة. مع أن المباراة التي أشاهدها وأنا أكتب هذا المقال لما تنتهي بعد.⚽️⚽️⚽️
===========
مشاهدات طريفة أخرى لمعلقي كرة القدم التلفازيين:
معلقو المباريات الرياضية يبدو أن معظمهم تعليمه “على قده” فيقعون في مطبات مضحكة: قال أحدهم موجها كلامه وأوامره العسكرية لللاعبين (قال يعني سامعينه): “نعيم ارفعها لسعد، سعد باصيها لفيصل، فيصل عطها جاسم، جاسم حطها بالقول… قوووول” ونظرا لأن هذه النقلات بديهية والفريق الآخر مستسلم أصلا، كان اللاعبون فعلا يتناقلون الكرة كما يظن المعلق أنهم يستمعون له، لكنه لطرافته أخذته الفرحة الغريبة فصاح: “بس خلاص، هذي خطتي”😁
***
كان معلق عراقي شهير على موعد مع التعليق على أهم مباراة للمنتخب والفوز بها يوصل لنهائيات كأس العالم. فلما تناقل اللاعبون الكرة ورفعها أحدهم رفعة عرضية غير متوقعة، انزعج المعلق “لا لا يا ناظم، ليش هيتشي يا عيني، ولك ليش…”😡 وفيما المعلق يلوم اللاعبين وما كان ينبغي لهم أن يلعبوا هكذا، هبطت الكرة من أعلى فانقض عليها أحد لاعبي الوسط فسددها مباشرة فإذا هي تعانق الشباك، فاستيقظ الأخ المعلق من غفلته وتعكر شعوره بأفضلية الفهم في اللعبة على لاعبيها، وصاح مستدركا “وِلَكْ قوووول للعراق العظيم”🤪
***