كان الأستاذ الفاضل نايف ذوابه قد نقل تقريرا صحفيا مطولا ومعارضا لثورات الربيع العربي، وأضع ردي هنا عليه :
أستاذنا الفاضل ومعلمنا الجليل نايف ذوابه، أسعد الله أوقاتك ومتعك بالصحة والعافية. اسمح لي يا أبا عبد الله أن أفكر معك قليلا واعذرني لو أطلت على حضرتك شيئا ما. نحن قوم نؤمن أن لا إله إلا الله لا شريك له، وأن للباري عز وجل سننا كونية لا تحابي مسلما ولا غير مسلم، فهي كالقوانين التي تسيّر الأرض. فإذا قلنا إن قانون الفيزياء “لكل فعل له ردة فعل تساويه في القوة وتعاكسه في الاتجاه” من ضمن هذه القوانين التي هيئها الله تعالى للخلق لما اختلف في ذلك اثنان، وكذا ثمة قانون “القوة لا تعرف الفراغ”. ثم أن القوانين ترتقي لتصبح سننا كونية عظمى لها قوانينها المحركة ودوافعها المنشطة، ومعظم هذه السنن ذكرها الرحمن في كتابه الحكيم، وهذا تكريم كبير للمسلمين من لدن الخالق العظيم، ومنها سنة الاختلاف وسنة التداول وسنة التمحيص وسنة الابتلاء وسنة التغيير وسنة القوة وسنة التمكين، وغيرها كما ذكر الله تعالى {فَهَلْ يَنظُرُونَ إلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} فاطر-43. أما المسلمون فقد ضعفوا وغاب عنهم فهم أبجديات هذه السنن، ناهيك عن الأخذ بها أو وضعها موضع التنفيذ. في حين أن الأمم الأخرى تدارستها وأدركت متطلباتها وكانت لها الغلبة في السير بها وجني شيء من ثمراتها. وبما أن الله تعالى وضع قانونا جبريا يتمثل بالقوة التي لا تعرف الفراغ، وأننا لم نملأ الفراغ كما يجب، ملأه غيرنا، لماذا؟ لأنهم طبقوا السنن الكونية على أنفسهم أولا، فنجحوا، ثم وجهوا نجاحاتهم علينا بطرق ووسائل يصعب تخيلها أو التكهن بها (وهذا موضوع يطول ولا يقصر). أما أمريكا، فهي لا شك هي تسعى إلى أن تكون المهيمنة على المنطقة ولها اليد الطولى عليها، لكننا نؤمن بذات الوقت أن لا إله إلا الله وليس “لا إله إلا أمريكا”. فأمريكا تجتهد وتتحرك وتحاول وتدرس ونحن كالجثة الهامدة مع أنظمة سايكس-بيكو، ومن المعلوم أن لكل مجتهد نصيب -وهذا قانون آخر- أما النائمون فلا نصيب لهم وإن كان الحق كله معهم. ومن هذه الاجتهادات الأمريكانية -ولعلكم تعلمون ذلك قبل أن أتعلم الكتابة- أن خطة سايكس-بيكو لا تعجبها وتريد تغييرها بأية وسيلة غير مكلفة، وأمريكا علمت وتعلم علم اليقين أن المنطقة ستنفجر لا محالة إن عاجلا أو آجلا، وتحاول أن تتدارك هذا الانفجار المرتقب عبر دراسات مكثفة وجادة، ومنها أن سبب توقعهم بندلاع ثورة المنطقة إنما يعود إلى أن سايكس-بيكو قسمت العرب تقسيمات وطنية جائرة وغير منطقية، وهؤلاء القوم لا تفرق بينهم حدود وطنية البتة ويجمعهم دين واحد، ويبدو أن كثيرا من المؤرخين الأمريكان ابدوا امتعاضهم من الغاء الخلافة العثمانية وذكروا في دراساتهم أن هذا الخطأ الجسيم هو الذي ولد ويولد الاضطرابات في العالم العربي. وهذا منطق صحيح. غير أن الأمريكان أعجبهم كذلك استغلال البريطانيين لمسألة الدين الإسلامي وتلاعبهم بالمسلمين من خلال الدين، وهذا أيضا صحيح للأسف، وقد نجحوا بذلك نجاحا مذهلا. فالبريطانيون ضربوا الخلافة العثمانية بحلم الخلافة العربية وتأجيج الشريف حسين وتحريضه على إقامة الخلافة الهاشمية “التي هي أحق نسبا ومكانة من الأتراك” كما يذكر مكماهون في رسائله للشريف حسين. ولم تكتف بريطانيا بذلك، فعندما أزعجها الشريف لاحقا، تخلصت منه عبر ابن سعود الذي يسعى هو الآخر للخلافة السعودية أو الوهابية، ثم عندما أرادت قصقصة أجنحة ابن سعود كشفته أمام جيوشه فوقع تمرد “إخوان من طاع الله”،وهكذا دواليك ضربت هذا بذاك وبذاك، وبماذا؟ بالدين نفسه. ولا نغفل كذلك أن الدولة العثمانية ذاتها كانت حليفة لبريطانيا لعدة قرون، والتاريخ لا ينقذ النائمين. وأمريكا من هذا المنطلق تريد كذلك التلاعب بنا من خلال الدين مجددا، عبر دغدغة مشاعر العامة بمسألة “الخلافة” التي أعلنتها داعش بين ليلة وضحاها، لأننا كما وصفنا الرئيس السوري الراحل أمين الحافظ “شعوب طيبة وغلبانة” أي أنها شعوب ساذجة وتخدع بسهولة. ولاحظ يا أستاذنا كيف تلاعبت بريطانيا بقضية الخلافة، وكيف غير الأمريكان السيناريو بطريقة عجيبة، مستغلين “شبق” البعثيين للعودة إلى السلطة تحت أي ثمن. نعم، أمريكا مولت حركة 6 أبريل وربما المنصف المرزوقي والبرادعي وغيره وغيره، لكن المؤكد أنها لا تستطيع دفع كل هؤلاء الملايين للموت تحت الدبابات ومواجهات نيران الشرطة الحية والقاتلة، ووقوف أكثر من 5 آلاف شاب وشابة ليواجهوا الموت ببطولة يندر أن توجد في التاريخ الحديث، وليقتلوا وتحرق جثثهم على مرأى ومسمع من العالم أجمع، فهل نظن أن شهادتهم كما نحسبها عند الله تعالى ستذهب سدى؟. ويمكن للملاحظ والمتابع أن يرى بسهولة أن حركة كفاية وغيرها كانت تنظم المسيرات والاعتصامات منذ سنة 2000، فلم يحدث شيء يذكر. فلماذا فقط في بداية 2011؟ هل لأن أمريكا أعطت الضوء الأخضر الآن؟ هذا مجرد كلام يحاول أن ينمقه الأمريكان ليثبتوا أنهم يحركون الأمور ويتحكمون بها، وهذا يستحيل! إن ثورات الربيع العربي تدخل ضمن قوانين السنن الكونية والتدافع الرباني (سنة التدافع)، ولو سألت أي متظاهر في درعا -المعروفة سلفا بأنها موالية تاريخيا للنظام السوري- لماذا تظاهرتم وأججتم الثورة وأنتم كذلك، لما عرف إجابة سوى “كأن الله دفعنا دفعا لذلك” (قالها لي أكثر من درعاوي). فهل أمريكا هي التي حرّكت أهل درعا لتحطيم صنم الطاغية وسط الميدان؟ كما أننا يجب ألا نغفل أن محركات الثورة لم تبدأ في 2011 بل يؤكد كثير من الخبراء والاستراتيجيين أنها بدأت من 2003 ومع انطلاق شرارة المقاومة للغزو الامريكي على العراق، فهل أمريكا أيضا حرّكت المقاومة التي ضربتها ضربات فاقت ما تلقته في فييتنام كما اعترف بوش؟ إن الحديث عن ثورات الربيع العربي يجب أن يتسم بجدية وعمق شديدين، ولا يغرنا في ذلك تقرير صحفي هنا أو خبر تلفازي هناك. ويبدو أن ثورات العرب ستتجاوز “لعبة الأمم” ومخططاتها، والقارئ للتاريخ والمقارن لمجريات أحداث الواقع يدرك ذلك بغير سهولة، فأسرار هذه الثورات لا يسهل تفكيكها، وللمرء أن يتأمل فكرة التدافع الرباني فيها. وعذرا للإطالة يا أبا عبد الله، وتقبل أطيب تحية