عندما نحاول قراءة المشهد العراقي الحالي واندلاع المظاهرات الحقوقية التي تطالب بأبسط مقومات المعيشة كتوفير الكهرباء والكف عن الفساد المالي والإداري الذي أثّر على حياة المواطن البسيط، فسنقف أمام مشهد معقد ومتشابك ويتطلب تفكيكا موزنا وموضوعيا قدر الإمكان للخروج بفهم سليم للواقع الذي جعل الإنسان العراقي البسيط وغير المسيس يخرج متظاهرا في هذا التوقيت الصعب، حيث تدور رحى ما يُطلق عليه ‘الحرب على الإرهاب’. فرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي يحاول جاهدا السيطرة على الموقف حيث رأيناه يدخل بنفسه للمظاهرات ليوحي أنه قادر على حل مثل تلك المعضلات، ثم أجرى عملية ترقيع –أقرب ما يمكن وصفها أنها هزيلة- من خلال ما وصفه ‘إلغاء المناصب وترشيد الانفاق ‘ في العراق، حسب رابط الخبر الذي نشرته جريدة الآن العبادي يلغي منصب المالكي بيد أن الخلل لا يتمحور بهذه الاجراءات الترقيعية التي يحاول العبادي إخراجها بطريقة مختلفة عبر تغيير الديكورات وجلب ‘أراجوزات’ آخرين ليحلوا محل الأراجوزات الذين ‘مصّخوها’ كثيرا. فالخلل جوهري وفي صميم النظام الذي أسسه الأمريكي بول بريمر قبل أكثر من عقد من الزمان. فأول القصيد، كارثة وجود حزب الدعوة في السلطة إلى جانب أحزاب طائفية أخرى لا تعلم من أمرها شيئا سوى ‘أَمَرَ السيستاني ومَنَعَ السيستاني، ورضي السيستاني وزعل السيستاني’، فهي أحزاب لا تعرف من أمر السياسة وكيفية الحكم إلا نظرية ‘الريموت كنترول’. ثم أن من الواضح للعيان أن الأجندة التي جاء على ظهرها حزب الدعوة إلى العراق تتلخص في عبارة واحدة ‘الثأر والانتقام’، وقد تجلى هذا الأمر الشأن بعد عقد ونيف من الزمان من وصول هذا الحزب للحكم (بعد تضبيط عملية الانتخابات تضبيطة شيطانية). كما أن من المعلوم والثابت عن حزب الدعوة أنه لا يمانع اللجوء للعنف والعمليات الترويعية لتحقيق أهدافه السياسية، وقد لمسنا هذا في الكويت في الثمانينات من القرن الماضي. ولسوء حظ الشعب العراقي المسكين، فإن حزب الدعوة يمثل الوجه الآخر لحزب البعث الدموي من ناحية الوسيلة والتكتيك على الأقل. وعلى الرغم من أن حزب الدعوة يزعم أنه ‘ذو توجهات دينية’، إلا أن المكيافيلية البغيضة تنضح منه نضحا، فلا يعبأ الحزب بأية مبادئ دينية سامية إن وقفت حجر عثرة تعيقه عن تحقيق غاياته. أما ثاني الإشكاليات في المأزق العراقي، فيتمثل في مشكلة الدستور الذي نشأ وتولّد تحت رعاية الاحتلال الأمريكي. فمن المعلوم أن أهم شرط لصياغة دستور يتسم بالشرعية هو ‘سيادة الدولة على أراضيها’، وهو شرط مفقود عند صياغة هذا الدستور الذي لا يمكن وصفه إلا بالباطل. لكن أساس المشكلة يكمن في كيفية التقاء الأطراف العراقية مرة أخرى جميعا بإرادة حرة وعدم تحريكها من المخرج الأمريكي كما تتحرك الدمى في مسرح ‘الأراجوزات’. ناهيك طبعا عن توجيهات المخرج الإيراني، الذي عرف من أين تؤكل الكتف وأخذ يهيمن على المشهد تدريجيا. إن الدستور الحقيقي لا يأخذ صفته الشرعية والقانونية إلا من خلال التوافق الشعبي والالتزام العملي والروحي فيه على أرض الواقع، وهذا لا يتأتى بالواقع الذي فرضه الاحتلال وجلب له أدواته الخاصة كحزب الدعوة وغيره من الدمى السنية والشيعية على حد سواء. ويتحتم على العراقيين الأحرار من كل الأطياف الالتقاء بمائدة حرة لصياغة مستقبل البلاد مجددا بعيدا عن كل النتائج التي تمخضت عن الاحتلال غير الشرعي. أما ثالثة الأثافي وهي التي لمس المواطن العراقي أضرارها المباشرة، فنجدها في الفساد الذي استشرى في عروق الدولة العراقية وتعاظمت بسببه اللصوصية وخطرها على الاقتصاد والحالة المعيشية للناس. على أن من الضروري إدراك حقيقة أن الفساد لم يقع إلا كنتيجة طبيعية للواقع غير الشرعي الذي رسّخه الاحتلال الأمريكي، ويخطئ من لا يربط هذه بتلك. فلم تظهر علامة المرور الخضراء للفساد ونهب المال العام إلا بسبب توفير الأرضية المناسبة والغطاء القانوني ومنح اللصوص الكبار الحصانة بالإضافة إلى تقليدهم المناصب التي تسهل لهم عمليات النهب العريض وتفريغ البلاد من ثرواتها ومقدراتها. يجب على المتظاهرين إدراك حقيقة الربط بين الفساد المادي والإداري وحالة اللاشرعية القائمة في البلاد منذ الغزو الأمريكي وحتى الآن. إن مطالب المظاهرات التي دبّت في كبرى مدن العراق لهي مطالب مشروعة ومحقة. فلا يعقل أن يظل المواطن العراقي، الذي يعيش في دولة تمتلك مخزونات هائلة من النفط بالإضافة إمكانيات وموارد اقتصادية أخرى ضخمة، بلا كهرباء ثلثي اليوم في منطقة حارة جدا من العالم. ناهيك عن عدم تقاضي المتقاعدين والمعاقين والأسر المعيلة المتعففة لمعاشاتهم وإعاناتهم الشهرية الدورية! غير أن المطالب يجب أن تعالج حقيقة الأزمة وجذورها في المشكلة المشكلة العراقية،لاسيما وأن هذا يأتي في ظل الحرب القائمة على ما يسمى ‘تنظيم داعش’، إذ أكلت هذه الحرب الأخضر واليابس في غرب العراق وشرق سورية. أما رئيس الوزراء العراقي الحالي فسيستمر في مداراة ضعفه وعجزه السياسي عبر قرارات يحاول فيها ضخ التخدير والتفتير في عزائم من تظاهروا طلبا لأبسط مقومات الحياة.