تأملات في مقارنة ترجمة معاني القرآن المجيد (2)

2) تلقي إشكالية تفسير القرآن المجيد بظلالها على ترجمة معانيه. ما يعني أننا نواجه إشكاليتين متداخلتين في بعضهما بعضا. ولنتناول نموذجا قرآنيا يتكرس في تفسيره مشكلة آلية الفهم الصحيحة للنص القرآني، ثم نرى هل تمكن المترجمان (وهما د. محمد عبد الحليم وفريق صحيح الدولي الذين اخترتهما لتفعيل وظيفة المقارنة في الترجمة) من إيصال فكرة هي في الأصل إشكالية وتتطلب جهدا جهيدا في الفهم الدلالي للنصوص القرآنية كما تتطلب التخلص من إرث أُسبغ عليه هالة من القدسية دون مبرر، والعملية الأخيرة قد لا يستطيع كبار العلماء والمفكرين التحرر منها لترسخ جذور التقليد والجمود في أعماقهم على الرغم من نقاء نواياهم. على أن من الحري بنا ألا نتسرع بإعطاء حكم أحادي حيال الصورة المثلى لآلية التفسير ومنهجيته وبالتالي ثمة دائما فسحة للمترجم يفلت منها من براثن الوقوع في الخطأ الدلالي، فما دام النص إشكاليا في الأصل، فللمترجم أن يتبنى منهجا يرتضيه في التفسير ويرى أنه الأنسب والأمثل لإيصال المعاني القرآنية.
على الرغم من أن سورة الفلق من السور القصيرة ويحفظها كثير من المسلمين كنص يحمي من أخطار الحسد والسحر وغيرها من الشرور، إلا أن ثمة تفسيرات متباينة لبعض الآيات في السورة تباينا ليس بالهين، لكن لنرى كيف تعامل المترجمان مع النص أولا.
—————————————
سورة الفلق:
{بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرّحيِمْ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ(5)}
—————————————
ترجمة دكتور محمد عبد الحليم:
In the name of God, the Lord of Mercy, the Giver of Mercy
Say [Prophet], ‘I seek refuge with the Lord of daybreak (2) against the harm in what He has created, (3) the harm in the night when darkness gathers, (4) the harm in witches when they blow on knots, (5) the harm in the envier when he envies.’
—————————————

ترجمة فريق صحيح:
In the name of God, the Most Compassionate, the Most Merciful
Say, “I seek refuge in the Lord of daybreak (2) From the evil of that He created (3) And from the evil of darkness when it settles (4) And from the evil of the blowers in knots (5) And from the evil of an envier when he envies.”
—————————————

وقبل إبداء أية ملاحظات، لا بد من إدراك أن النص يحتوي على إشكاليات عدة في التفسير، ثم أن الخلفية الفكرية التي ينطلق منها المترجم ستظهر مهما اجتهد في موضوعيته. ولا يعيب المترجم أن يكون تقليديا في نهجه ونقله. فالدكتور عبد الحليم في هذا النص التزم التفسير التقليدي بمسألتي “الغاسق” و”النفاثات في العقد” فشدد في الأولى على أنها night أي ليل، والثانية على أنها witches أي ساحرات. وهذا تفسير تقليدي تجاوزه المفسرون المعاصرون. هب أن أحدا يضرب لك مثلا لكي يسهل عليك فهم المعنى الأكبر شمولية، فهل يعني هذا أن تتمسك بالمثل وتترك المعنى الأشمل؟ فأول ملاحظة معنى الفلق وهو عنوان السورة وفكرتها الكبرى، فهو بمعنى “الانشقاق ثم الانبثاق”، فهل الفجر أو بداية الصبح وحده هو الذي يحتوي هذا المعنى؟ فما معنى أن يقول الباري عز وجل {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَىٰ ۖ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ۚ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ ۖ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ} الأنعام-95 وقوله في الآية التي تليها {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ۚ ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}. فالفلق شيء والصبح شيء آخر إذًا، فهو مثال لمعنى أشمل كما ذكرنا. فنجد فريق صحيح أخذ بنقحرة العنوان لكنه استخدم daybreak في متن الترجمة. أما دكتور عبد الحليم فقرر أن يجعلها عنوانا بلا نقحرة (اللهم في فهرس ترجمته) بالإضافة للمتن. ومن جهة أخرى، ترتبط كلمة “غسق” بالليل لاحتوائها معنى الظلمة ولكنها لا تعنيه بالضرورة والديمومة والحصر. فهي تشير لمعنى الظلمة الحالكة، وكذا فعل “وقب” الذي يرتبط بفعل الوقوع في الظلام. ولذا فإن الصورة الربانية هنا تشبيهية بالدرجة الأولى، لكن المعنى الشامل هو الدخول في ظلمة والوقوع في ظلمة أشد منها، كظلمة الكفر وظلمة الجهل وظلمة الطغيان وظلمة الاستئخاذ، كما أن الشبهات في طبيعتها ظلمات أيضا، ويشمل المعنى الرباني كل الظلمات المعنوية والمادية (تشبيه معجز غاية في الإبداع). وحيث أن هذا المعنى الشمولي غير واضح أو منتشر لدى عموم قراء القرآن، فإن هذه المعضلة تظهر في ترجمتها عند الدكتور عبد الحليم. أما في ترجمة فريق صحيح فقد تجنبن بذكاء هذه الإشكالية بالتزام استخدام مفردة darkness دون زيادة أو نقصان وأتممن المعنى بـ settles وأعتقد أن هذا المعنى يتسم بالقرب ومما لا بأس فيه لإيصال المعنى. أما ترجمة الدكتور الهلالي ورفيقه الدكتور خان فهي أكثر تقليدية من ترجمة الدكتور عبد الحليم وتاه المعنى منها في بحور التفسير.
ثم نتناول إشكالية “النفاثات في العقد” فيبدو أن المترجمين التزما التفسير التقليدي السائد على علاته ولم يحاولا كما يبدو تحليل وتفكيك مفردات النص ذاتها. فكلاهما أخذا بالمعنى السهل والسائد ألا وهو الساحرات، وعلى الرغم من أن النص لا يبعد هذه الفئة الشريرة عن المعنى، إلا إنه لا يحصره أو يقيده فيها، فهذا مثال لمعنى أكبر. فلدينا معنى النفاثات ومعنى العقد، فهل المعنى يشير فقط للساحرات الذين ينفثن في العقد؟ لعل صيغة التأنيث هنا “نفاثات” هي التي أوحت لبعض المفسرين معنى الساحرات، في حين أن اللغة العربية تنضح باستخدام صيغة التأنيث لغير المؤنث وخصوصا في القرآن {والنازعات غرقا} النازعات-1 وهي مجموعات الملائكة، {وما تنزلت به الشياطين} الشعراء-210 فهل الشياطين مؤنثة فقط بهذه الصيغة؟ وأمثلة عديدة بهذا المعنى سواء في النص القرآني أو في الاستخدامات اللغوية الحياتية، فاللغة العربية تستخدم صيغة التأنيث عند الإشارة للنفوس والمجموعات بالإضافة لوصف المؤنث، وما الساحرات هنا إلا مثال حسي ضمن صورة أكبر، ألا وهي تعقيد الأمور والمشاكل والمآسي لاسيما على الأمم والشعوب والمجتمعات، والعقد هنا تأخذ المعنى الحسي والمعنوي كذلك.لكننا نجد أن كلا المترجمين لجآ للسائد دون إمعان وتعمق غير تقليدي بالمعنى the blowers in knots غير أن الدكتور عبد الحليم أضاف witches التزاما منه بالتفسير الجامد.

* مرجعي في التفسير محاضرات فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي رحمه الله، وفضيلة الشيخ بسام جرار.

الإعلان

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s