راشد الغنوشي والإشكالية الكبرى

اطلعت على مقابلة دكتور راشد ‫#‏الغنوشي‬ في برنامج بلا حدود مع أحمد منصور في قناة ‫#‏الجزيرة‬، حيث أدلى الرجل بتصريحات مثيرة للاهتمام تدعو إلى التأمل والتوقف. لا شك أن الدكتور الغنوشي يحمل تجربة غنية أهلته لأن تكون له مكانة مرموقة فكريا في العالم الإسلامي فهو مؤسس حركة النهضة وقاوم النظام البوليسي الإجرامي في ‫#‏تونس‬ ولم يرضخ له ولم يهادن، وهذا مما يحسب له.
إلا إن الغنوشي وقع في مغالطات واضحة في المقابلة تستحق النقاش والتفنيد. سأتناول منها مغالطتين هامتين، وإن كان ليس من السهولة فعل ذلك، لأن الغنوشي يحاول إضفاء جانب الشرعية فيما يقوله حتى لا يتهم بالابتداع والخروج عن المبادئ الإسلامية، وهو بهذه المحاولات ماهر ولا شك، لكن “غلطة الشاطر بعشرة” كما يقال.
أولا: ذكر الغنوشي أن الإسلام موجود طالما أن هنالك دولا تضع في دساتيرها أن دين دولتها هو الإسلام، وأن قوانينها تستمد من الشريعة الإسلامية. وهذه برأيي ورأي كثير من علماء الأمة مغالطة واضحة وتغييب للحقيقة، وكذا يعد تشويها لحقيقة مفهوم الإسلام الأشمل والأرحب. لم ينزل هذا الدين فقط لكي يقيم شعائر ومناسك تلتزم بها الجماعات والأفراد كالصلاة والصيام والزكاة والحج وغيره، ولا فقط لتثبيت قوانين سماوية قاطعة كأحكام الميراث والزواج والأوقاف وغيرها، فهذه كلها مما ثبتها الإسلام وطورها فبعضها نزل به الإسلام ابتداءً وبعضها الآخر منسوخ من الشرائع السماوية السابقة، لكن أجمع العلماء على نزول الإسلام لتحكيم شرع الله على البشر {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يوسف: 40 (مبدأ الحاكمية) وأن الله تعالى هو السيد وهو الحكم والحاكم وله التدبير والتصريف، وشريعته المكتملة هي الحق الذي لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه. فنسأل الدكتور الغنوشي كيف بالله نطبق مبدأ الحاكمية ما لم يكن هنالك دولة لها شوكة ومَنَعة واستقلال؟ أما أن تتكرم دولة ما بأن تأخذ من شرع الله ما يوافق هواها وتترك ما لم يرق لها منه فهذا هو بعينه الحرج الذي وصفه الله تعالى بكتابه الحكيم {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} النساء: 65، وهنا مكمن الداء الفكري الذي يعاني منه الغنوشي وكل من تأثر بأفكار الغرب. فالإسلام لا بد له من دولة متجسدة على أرض الواقع تلتزم بأمر الله وتنتهي بنواهيه، وإن وجود المسلمين على كثرتهم أو قلتهم لا يعني أن الإسلام بالضرورة قائم بيننا الآن. والهروب من الواقع مشكلة عويصة وإن زاد عن حدّه تحول إلى مرض مستعص يصعب الفكاك منه.
ثانيا: ذكر الغنوشي بمقابلته المذكورة آنفا، أن الإسلام لا يجبر المرأة على ارتداء الحجاب، من أرادت الحجاب فلتفعل ومن أرادت السفور فلتفعل، وتأوّل ذلك بآية {لا إكراه في الدين}. فناهيك عن إن هذا تضليل بيّن، وعلى الرغم من حقيقة أن الإسلام هو دين الحرية وعدم إكراه الناس على شيء من معتقد أو فكر، إلا إن خلع الحجاب أو السفور هو عمل مادي محض يؤدي إلى تبعات مباشرة على المجتمع، والإسلام عالج هذه المشكلة منذ زمن بعيد والتزم بها المجتمع الإسلامي عن اقتناع. لكن من جهة أخرى، إذا أردتُ أن اسير حسب منطق الغنوشي وأقول “صحيح، لا يجوز فرض الحجاب بالقوة من الدولة” هل يعني ذلك أن الغنوشي سيقف عند هذا الحد ويترك الجميع كلّ حسب فكره الخاص وابتداعه وتأويله؟ هذه هي الفوضى بعينها! ثم إذا أراد الغنوشي أن يذكر الحقيقة وعدم تضليل الناس، هل يستطيع أن يجعل التلفزة الرسمية في تونس تعرض الحديث الصحيح الذي ذكره رسول الله عليه الصلاة والسلام “صنفان من أهل النار لم أرهما، رجال معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات على رؤوسهن كأسنمة البخت لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وأن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا” رواه أحمد ومسلم في الصحيح. فالصنف الثاني يشير إلى النساء المتبرجات بوضوح تام. وهذا الحديث وغيره يعد من الدلالات الإعجازية على النبوة المحمدية. فقد انتشرت في الستينات والسبعينات والثمانينات وربما التسعينات أيضا موضة تسريحة نسائية يكون فيها الشعر منتصبا للأعلى بشكل يشبه سنام البعير أو البخت كما وصفه الرسول الأكرم في الحديث، وكأنه شاهد ما نشاهده ونعايشه من مفاسد، وهذا صدق وحق لأن الله تعالى كشف عنه الحجاب مصداقا لقوله عز وجل “سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا من حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير} الإسراء: 1. أي أن الرسول عليه الصلاة والسلام شاهد وسمع ما كان وما سيكون بأمر الله. فهل يستطيع الغنوشي أن يذكر للناس هذه الحقائق؟ أنا وغيري مستعدون أن نراهنه أنه لن يضطر لإجبار كل امرأة سافرة على ارتداء الحجاب إذا وضح خطورة عدم ارتداء الحجاب على كل امرأة مسلمة وأنها لن تدخل الجنة إطلاقا ولن تشم حتى رائحتها الزكية التي تشم من مسافات شاسعة جدا جدا. وسيصبح هذا يسيرا إذا ما استخدم الإعلام والتربية الصحيحة المبنية على ذكر الحقائق والقوة بطرحها لتنشئة جيل جديد يفهم هويته ومرجعيته بعيدا عن الحرج والمهادنة وابتغاء ارضاء الغرب أو الشرق. وأجزم إذا تحقق ذلك وعُمل به أنه خلال جيل واحد فقط، وربما أقل، سنرى الأغلبية الساحقة من المسلمين -إن لم يكن جميعهم- سيعودون إلى وعيهم الأصيل، ذلك أن الإسلام على حقيقته لايزال كامنا بنفوس الناس الذين لا يحتاجون إلا لمن يحمل لهم شعلة إنارة الطريق، وما الهداية إلا من رب العالمين.

الإعلان

2 responses to “راشد الغنوشي والإشكالية الكبرى

  1. مقال جيد والغنوشي سقط في امتحان السلطة هو وعبد الفتاح مورو بداية من تنازلهم عن شعار الاسلام هو الحل مروراً بقوانين اباحة الخمور وبحر التنازلات الذي لا ينتهي. بالنسبة لجزئية الحاجب لا يوجد حد على عدم الحجاب، أي لا نستطيع اكراه امرأة على ذلك وجل ما يمكننا هو توضيح حكمه والاحكام المترتبة على عدم الالتزام به

    إعجاب

  2. شكر الله لكم متابعتكم وتنويهكم أخي العزيز أمير.
    الحق أن المقال تشدد بمسألة الحجاب، كما تلاحظ، وفي الأخذ على الدكتور الغنوشي بذلك. ولعل مرد هذا واضح، وذلك بتسليط الضوء على نفاق الدولة وانتقائيتها في عدم الإشارة إلى هذا الجزء من الإسلام، والذي لو تجلى للنساء لوجدت أغلبيتهن الساحقة يحافظن على فضيلة الحجاب والمظهر اللائق المستور.
    لكن من خزعبلات هذا العصر أن تجد امرأة محجبة وترتدي بنطالا ضيقا يبرز -للأسف- مؤخرتها بلا حياء أو وجل، حتى تصل رسالة مبتورة مخسوفة “أننا التزمنا بالحجاب كما تريدون!” والأدهى أنها تمشي في الأسواق والطرقات بهذا المظهر مع زوجها أو أخيها أو أبيها. وهذه كارثة أخرى، فهي انتشار للدياثة بين الرجال في عالمنا العربي. لم تسنح لي فرصة لكتابة مقال عن ظاهرة الدياثة المخزية، بالرغم من أنه أمر يشغل بال كثيرين ويقض مضاجعهم. لا بد من القسوة على أنفسنا حتى نكون على بيّنة لا على نفاق.

    إعجاب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s