وسقط النظام الليبي بسقوط قيادته وتهاويها واستسلام الكتائب الأمنية التي كانت تأتمر بأمر العقيد معمر القذافي. وجاء هذا السقوط الذي طال انتظاره قبيل أيام قلائل من ذكرى الفاتح من سبتمبر الثانية والأربعين، وهي الثورة التي أطاحت بالحكم الملكي لآل السنوسي عام 1969. ولا شك أن مجريات الثورة الليبية أخذت منحنى تصاعديا طويلا أصاب الناس بنوع من التخوف والتوجس على مصير الثورة الليبية. وهذه الثورة اختلفت عن باقي الثورات العربية الأخرى بأنها اختارت طريق الثورة المسلحة، حيث فرضت طبيعة النظام الذي كان يتزعمه العقيد معمر القذافي على الشعب التوجه نحو هذا الخيار الصعب والمحفوف بالمخاطر. فالقذافي بطبيعته النرجسية المتأصلة يعتقد دائما أنه يحتكر الحقيقة و”أنه يفهم ما لا يفهمه الآخرين” مما أهله -حسب زعمه- أن يكون ملك ملوك أفريقيا وعميد الحكام العرب. وهو كذلك يرى الآخرين أقزاما مهما علت مواقعهم ومناصبهم، وقد عبر عن ذلك بأكثر من مناسبة سواء باجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة الشهير أو بقمم الرؤساء العرب المتتالية. أما ابناء وشباب شعبه فوصفهم “بالجرذان” تارة وتارة أخرى “بالمهلوسين”. وهكذا فإن الثوار الليبيين أكدوا أنهم أُكرهوا على حمل السلاح بعد أن ذكروا مرارا وقوع مجزرة في بنغازي بعيد انطلاق الثورة في السابع عشر من فبراير سقط على إثرها مئات المواطنين الليبييين في غضون يومين فقط. وعلى كل حال، فإن علينا جميعا احترام رغبة الشعب الليبي بلجوئه لخيار السلاح، فهو أعلم بشؤونه وأدرى بأوضاعه. وقد يدل على صدقية اللجوء لهذا الخيار الفترة التي سبقت انطلاق غارات النيتو بقليل، حيث زحفت الكتائب القذافية نحو بنغازي واقتربت منها وكانت سترتكب مجزرة فعلية بكل من كان يقطن بهذه المدينة التي تقع بشرق لليبيا. وبالتالي فإن خيار السلاح للشعب الليبي فرضته طبيعة هذا النظام وكان أمرا مفروغا منه إن طال الزمن أو قصر، وقد عبر الثوار عن أسفهم للجوء لهذا الخيار وهم مكرهين.
ومن ناحية أخرى، فإن الطريق الآن يبدو ممهدا لتفعيل الرغبة الشعبية بالقضاء على الاستبداد ونيل الحرية والكرامة وتحقيق أسس القانون والعدالة الفردية والاجتماعية، وقيام أركان الدولة التي تقوم على احترام حقوق الإنسان الفردية والجماعية واحترام حقوق الأقليات وحرية التعبير العام المكفول. وكل هذه المباديء لا بد أن تتحقق بعد صياغة دستور وطني يضمن تحقيق جميع هذه المباديء التي ترعاها الشريعة الإسلامية السمحاء. إلا أن بعض السلبيات التي ظهرت طوال هذه الستة شهور لا بد من الإشارة إليها. ولعل أوضحها قضية مقتل عبد الفتاح يونس الغامضة والتي كشفت النقاب عن وجود عناصر متطرفة لا يبدو أن المجلس الانتقالي يسيطر عليها. وقد أكد السيد مصطفى عبد الجليل -وأنقل على لسانه حرفيا العبارة التي ذكرها- أنه “لا يشرفه أن يكون رئيسا لمجلس لا يقيم العدل ويمنع عمليات الانتقام والفوضى”. وقد أتى هذا التصريح قبيل ساعات من فتح طرابلس، ويقصد به تطبيق العدالة بقضية عبد الفتاح يونس الذي اغتالته جماعة مسلحة بطريقة بشعة، والسبب كما قيل لعلاقته السابقة مع نظام القذافي أو لدوره السابق في بعض الانتهاكات والتعذيب التي قام بها هذا النظام، وكل هذه الحجج والتبريرات لا تبدو مقنعة وستظهر الأيام القادمة ما خفي من الأمور. ولكن يترتب على المجلس الانتقالي مواجهة التحدي القائم بمدى قدرته على فرض سلطته الانتقالية التي تؤسس للمرحلة المقبلة. والتجارب التاريخية بالثورات تشير إلى ضرورة وجود نوع من الحزم أحيانا حتى تستقيم الأوضاع ولا يحدث فلتان خارج عن السيطرة هنا أو هناك. ولذلك فإن تكريس سلطة القانون مسألة ليست يسيرة إطلاقا لا سيما بمجتمع لا زالت العادات القبلية كالأخذ بالثأر تسيطر عليه. فيتحتم على المجلس منع عمليات الانتقام والتصفيات القبلية أو الفردية لأنها ستؤدي إلى إلغاء وجود الدولة وهيبة القانون.
وهناك نقطة أخرى لا بد من الإشارة إليها لأهميتها الجمة. وهي أن نظام الثورة القادم لا بد أن يوضح توجهه الذي سيسير عليه من ناحية القضايا العربية والإسلامية التي سيتبناها. فلا بد من التذكير أن نظام الملكية السنوسية في ليبيا كان قد وصل إلى مرحلة من الترهل وانعدام الوزن لدرجة جعلته يشكل منطقة فراغ استغلتها القوى الغربية ضد القضايا العربية. ولا داعي لإعادة سرد تفاصيل حكاية الطائرات التي انطلقت من القواعد الجوية الليبية التي كانت تشرف عليهما كل من بريطانيا والولايات المتحدة لقصف المطارات المصرية إبان حرب عام 1967. حيث استغل الصهاينة هذا الترهل فكان أن تعاقدوا مع طيارين حربيين يهود لتشكيل الموجات الأولى التي قامت بالهجوم المفاجيء على المطارات المصرية ومن ثم التوجه لفلسطين المحتلة، فقال آنذاك الرئيس جمال عبد الناصر كلمته الشهيرة “انتظرناهم من الشرق فجاؤونا من الغرب”. فالواقع العملي الذي فرضه الواقع يقول أن ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 أدت إلى تخلص ليبيا من كونها أداة سهلة بيد الغرب وأرجع البلاد إلى تفعيل مشاعر الشعب الليبي بقضاياه القومية العربية وعلى رأسها قضية فلسطين، فتركت ليبيا العربية بصمتها العطرة بحرب عام 1973 ودفعت بابنائها للاستشهاد على مواقع الجبهات في وجه الصهاينة. وبالتالي فإن التذكير بالعهد الملكي لا بد أن يكون بحذر ويجب الاعتبار من سلبياته ومآخذه حتى لا تعود ليبيا منطقة رخوة ليعود إليها الأمريكان ومن خلفهم الصهاينة ليحيكوا مجددا مخططاتهم ومآربهم التي لا تصب بصالح ابناء الشعب الليبي والعرب عموما بكل تأكيد. فالحذر الحذر أيها القائمون على الأمر بالثورة الليبية.
وبالنهاية، فإنني أولا أقدم التهنئة للشعب الليبي المجاهد ابناء عمر المختار على تخلصهم من الطغيان والاستبداد، وأتمنى لهم فتح صفحة تاريخية جديدة مستقرة ومزدهرة. وثانيا، أعرب عن بهجتي بانضمام الثورة اللليبية لنجاح شقيقتيها في تونس ومصر، لتشكل طريقا للحرير للربيع العربي الذي انطلق بداية هذا العام. وسيشكل هذا النجاح الجديد ضربة قاصمة لآمال الطغاة الذين اعجبوا “بصمود” القذافي، لكنهم بلا شك سيعيدون حساباتهم الآن. ونأمل من الله عز وجل نجاح ما سعى إليه الشعبين اليمني والسوري الشقيقين من التخلص من الطغيان ونيل الحرية والكرامة، وسيستلهم هذان الشعبان هذا النصر في طرابلس وسيستبشران به خيرا وأملا. وكلمتي الأخيرة أوجهها لمن تبقى من الطغاة والمستبدين العرب، فعليهم أن يدركوا أن عجلة التاريخ لا تعود للوراء ورغبة الشعوب الحقّة لن يقف بوجهها جيوش أو بلطجية أو شبيحة أو كتائب. ولا بقاء إلا لمن يصلح ويعدل فعلا لا قولا.