المؤامرة” بخطاب الرئيس السوري الثالث”

اطلعتُ بالأمس على خطاب السيد رئيس الجمهورية السورية د. بشار الأسد، ولفت اهتمامي ما ركز عليه بالخطاب حول فكرة “المؤامرة” وخطورتها على سورية وعلى المنطقة عموما. ولا شك يتبادر إلى ذهني إنها كلمات حق ولكن أريد بها باطل، وهو دأبُ كل من يستمريء الخداع والتضليل وخلط الأوراق لتعمية الأنظار، أو بمعنى شعبي آخر “اللعب على ثلاث ورقات”. كل من يقرأ التاريخ الحديث والمعاصر يعلم ويتيقن أن الأمم الأخرى لا سيما الغرب والولايات المتحدة عبر أداتها إسرائيل تحيك المؤامرات والدسائس بل وحتى تكيد كيدا، أي كالنساء تماما، وعلى من لا يصدق هذا الأمر عليه أن يشاهد نماذج بسيطة من هذا عبر أكثر من موضوع نشرناه بهذه الصفحة مثل الصراع على الشرق الأوسط والهجوم على سفينة التجسس الأمريكية ليبرتي وغيرها

 

إلا إن التذرع بوجود هذه المؤامرة لإيقاف إي عملية إصلاح أو لوأد الحريات والمشاركة السياسية الفاعلة والقضاء على الفساد والحد منه وفصل السلطات واستقلال القضاء التام هو أمر شرير بشكله وموضوعه. والقول المرسل بوجود المؤامرة دون دليل مادي واضح هو مؤشر على عدم وجود مؤامرة بسورية حاليا فيما يجري من مطالبات وتحرك ثوري نحو التغيير وإسقاط النظام الذي ثبت عدم قدرته على الإصلاح وخطورته على مستقبل الشعب السوري الحر. وكل ما أجرم به هذا الشعب هو أنه استنشق نسائم الحرية التي جاءته من تونس ومصر ومع أمل شعوب ليبيا واليمن بالتمسك بالحرية والخلاص من الطغيان. فهل الشعب السوري لا يعلم بحقيقة المؤامرة ومدى الشر الكامن بربطها الدائم بالحصول على حقوقه بالحرية والكرامة والعدالة والمساواة؟! إن هذا الربط الشرير يأتي من قبل نظام عديم القدرة على الإصلاح الحقيقي، وهو في طبيعته نظام عسكري قمعي تسلق على فكرة حزب البعث وقضى عليها من جذورها، وهي بالأصل -وهذا موقفي الشخصي- فكرة تتسم بالعنصرية الشديدة والانغلاق والشوفينية العروبية غير المبررة، وهذا موضوع آخر. بينما السلطة الحقيقية التي تسلقت الحكم في سورية عبارة عن خليط عائلي وطائفي قوامه السيطرة التامة على قوى الجيش والأمن لضمان السيطرة على قمع أي مطالبات بالحريات. وقد أمعن طوال السنوات والعقود الماضية بسياسة التضليل والكذب والتمويه حتى يتجنب الانكشاف أمام الشعب بعد أن ارتدى قناع الممانعة والتصدي لمخططات الغرب والصهيونية، وهذا صحيح، إلا إنه يستخدمها أيضا كذرائع للتهرب من استحقاقاته وللبقاء على سدة الحكم دون تكاليف ومسؤوليات تجاه الشعب. وبالتالي فإن هذا النوع من الأنظمة يشكل خطرا مزدوجا على كل من تطلعات السوريين نحو بناء دولة حقيقية قائمة على الديمقراطية الفاعلة، وكذلك على القضاء على هذه المؤامرات الفعلية التي يحيكها الخارج. والخطر الأكبر يتمثل في أن الناس، مع مرور الزمن وبتكرار كلمة المؤامرة دون وعي وبشكل سمج (رددها الرئيس السوري بخطاب الأمس ما لا يقل عن 18 مرة)، لن يصدقوا بعد ذلك وجود المؤامرة حتى لو كانت ماثلة أمامنا، لا سيما أن الغرب لا يخفي ملفاته طويلا ويعترف بشكل متكرر أنه يمارس المؤامرة حفاظا على مصالحه (غير المستحقة) بالمنطقة. وهكذا، فإن ترديد النظام السوري كلمة المؤامرة بطريقة كاذبة وممجوجة هكذا سيجعل من الناس وخاصة فئة الشباب يمقتون هذه الكلمة بجميع الحالات، وهذا خطر كبير على مستقبل أمتنا وسيسهل من اختراقنا من قبل المتآمرين الحقيقيين الذين يتربصون بكل ما يجري بمنطقة الشام الكبير

 

وعلى هذا، فإن الواضح أنه كلما طال أمد الأزمة في سوريا كلما ما جعل من الوضع قابلا للاختراق للمتربصين والمتآمرين الذين يعملون لصالح الغرب والصهاينة. وعلى النظام -إن كان له عقل ولب يفكر به- أن يستقريء حادثة ديفيد كوهين وتمكنه من التجسس لإسرائيل وقد نجح باختراق أعلى مراكز السلطة ببداية الستينات وحتى منتصفها. ولم يكن ليتسنى لهذا الجاسوس المقبور النجاح كل هذه المدة الطويلة إلا لوجود حالة رخوة بنظام الحكم السوري، وهي الحالة التي نعاني منها الآن. وعلى النظام السوري كذلك ملاحظة النجاح المصري باصطياد جواسيس الصهاينة حتى بعد نجاح الثورة، لأن الحالة الثورية بمصر المطالبة بإسقاط الرئيس المخلوع لم تطل لمدة تجعل من الأزمة غير قابلة للسيطرة. فعلى النظام السوري أن يدرك أن إطالة عمر الأزمة هو الذي سيجعل البلاد قابلة للاختراق الجاسوسي والاستخباراتي بشكل مكثف في ظل استنزاف موارد الدولة وتكريسها نحو القمع وممارسة سياسة التضليل الإعلامي في وقت لا تجدي مثل هذه الممارسات البالية.

 

فيا أيها الناس! إن المؤامرة موجودة بالفعل، لكنها لا تظهر بوضح النهار كما هي حالة المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام، بل تبقى منزوية ومتوارية بالظلام أو بالخديعة والمكر الذي يتغلب على كذب النظام الساذج

أضف تعليق